منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ستار لوك


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

  خرائب الأزمنة الفصل 1

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
BaSmA iBrIz

BaSmA iBrIz


انثى عدد المساهمات : 1387
تاريخ التسجيل : 04/03/2011
العمر : 25
الموقع : /https://starlook.alafdal.net

 خرائب الأزمنة الفصل  1 Empty
مُساهمةموضوع: خرائب الأزمنة الفصل 1    خرائب الأزمنة الفصل  1 Emptyالخميس 23 يونيو 2011, 14:17


الفصل الأول

الأزمنة
السحيقة، امتدت تأثيراتها تحت رماد القرون، ووضعت بصماتها على المكان،
انطفأت البراكين الأولى المتأججة، واتسعت فوهاتها، وتراكمت حممها بين
منعرجات جبال الشعرا واستحالت مع توالي العصور الجيولوجية سهلاً بازلتياً،
تحيطه رعوش جبلية، واحراج نضيرة. من الجهة الشرقية على مطل السهل الغربي،
نهضت رابية عالية؛ تراكبت فوقها بيوت من الحجارة، اقتلعت من الصخور الصلدة
الناتئة التي أبقتها البراكين الخامدة جوبات متناثرة سُميت الحارة الواطئة
منها بحارة غويران الوطا والحارة العليا بحارة (غويران المزار) وفي قمة
الرابية تبدت سنديانة هرمة، بأغصانها المقشرة، كأنها مخالب نسر كسرته
الأيام ونتفت ريشه. وعلى جذعها الدهري، رُبط شابٌ في ريعان فتوته ربطاً
محكماً، وعري الطرف الأعلى من جسده الهزيل المدمى بآثار قضبان من الرمان
اللدن، تلك القضبان تركت خطوطاً زُرقاً في جانب وخطوطاً حمراً نازفة في
جانب آخر، وكانت شمس أيلول القائظة المنذرة برحيل الصيف، تلقي ظلالها
الغروبية فوق الجسد المُدمى الذي كان يهدر فوقه رجلٌ ذئبي السمات، يفتل
شاربيه الطويلين كذنب جحش صغير كلما تعب من الضرب، أو تكسر قضيب الرمان،
ليأتي بآخر أشد صلابة، ولم يكن أحد يتجرأ أن يتدخل لايقاف هذا الرجل، رشيد
بك مبارك الآمر الناهي الذي يملك وأسرته الأراضي والدواب والبشر الذين
يعملون مرابعين في حارة غويران الوطا، ولم يكن هذا الشاب المصلوب على جذع
السنديانة إلا غيلان الجعفي الابن البكر لابراهيم الجعفي من أسرة الجرود
المهاجرين، الذين تقاذفتهم الفلواتُ والاضطهاد العثماني، إذ قتل السلطان
عبد الحميد الأخوة الثلاثة رمياً بالرصاص نتيجة دسيسة قام بها أحد عملاء
الدولة ، روعت الحادثة إبراهيم الجعفي وظل يجترها في ذاكرته، ويتملاها في
أسى مفجع كلما خلا لذاته، راحت عيناه الواجفتان تراقبان ابنه المصلوب على
جذع السنديانة في تمزق غريب، وانداحت بحيرة الذكريات في قحف رأسه، وانتشرت
في العراء المجنون جثث أخوته الثلاثة، وقد غربلها رصاص العثمانيين، وكانت
الخطوط المدماة فوق جسد ابنه تحفر في سراديب ذاكرته المفجوعة الخطوط ذاتها
التي رسمها الطغاة، عبر القرون في جسم الإنسانية الحزينة، وكان التأوه
المجروح الذي ينفثه ابنه بعد كل ضربة عنيفة، وتمزق في الخلايا، ينقله إلى
قفار الخوف القديم، يوم جُرَّ أخوته وراء قرابيس الجنود القساة، وارتسم فوق
وجوههم الرعب الذليل، يوم صلبوا عند المغيب، في هذا الوقت ذاته، الذي
يُصلب فيه ابنه. أحس بدوار مقرف يكتسحه، ودموعه تتساقط من عينيه، دون أن
يقدر على أن يبدي حراكاً، ولو تقدم خطوة واحدة، لناله أضعاف مايناله ابنه
غيلان الجعفي من الضرب المبرح. حاول أن يصم أذنيه عن فرقعة الضرب، وصوت
الجلد الذي ينهش اللحم. كان رشيد مبارك يكشر عن أنيابه فرحاً، كلما رأى
الدموع تنهمر ثخينة فوق خد الأب المعروق الذي أهزله الزمن، ليتلذذ برؤية
الضحيتين معاً، وكان المغيب يُلون جبهة غيلان الجعفي وتضاريس وجهه، بلوحات
مغرقة بالحزن، والايحاء الناطق مما يرتسم في الأعماق، وينعكس فوق كوى
الجسر، فتبرز المعالم أكثر شخوصاً، وتتجلى بوارق الحدس أشد تعبيراً، عينان
واسعتان سوداوان كفحمة الليل، في الأغوار السحيقة، تسبح فيهما دموع متألقة،
جبهة عريضة كأنها قُدَّت من صخور جبال الشعرا، تناثر فوقها شعر حالك
طويلٌ، اختلط بالدمِ والتراب، وأنف أقنى يبرز في هذا الوجه كأنه رعش ناتئ،
ينتهي بفم مطبق على إرادة مصممة على الوصول إلى غايتها، غير أن التعذيب
الوحشي، أحدث شرخاً في تصميمها، وترك ندوباً دموية فوق الشفتين المتيبستين.
اقترب رشيد مبارك من الفتى المدمى وصرخ به صائحاً:‏


- تحاول أن
تقفز فوق طبقتك وابنتي خضراء مبارك لن تسقط في وهادكم ووحولكم النتنة
مثلكم، آويناكم أيها الجرود المارقون، أسكناكم بيوتاً تضمكم بعد أن كنتم
سارحين في الفلا والبراري مثل الوحوش. أطعمناكم من قمح أرضنا وغلالها، بعد
أن أكلكم الجوع والعري والمهانة، الدم الذي يجري في عروقنا، نحن آل مبارك
يختلف عن دمكم المجبول بالذل. ابنتي خضراء الغالية سأزوجها إلى أغنى وأرفع
شخصية في هذه الديرة أو إلى أحد أولاد عمها اللائقين بها، ولن أكتفي بجلدك
وحدك المرة القادمة بل سأجلد أباك، وأحبس أهلك في زرائب الدواب..‏


جثم رشيد
مبارك فوق كرسي من القش، وقد نال منه التعب من هول الضرب المبرح لضحيته،
درج سيكارة تبغ من علبة فاخرة مفضضة الجوانب راح يمجها في دناءة وحش شبع من
فريسته وامتصاص دمها. فتح غيلان الجعفي عينيه المقروحتين وأجالهما في
الآفاق، تراءت له الظلال الطولانية التي يخطُّها الغروب بين جوبات جبال
الشعرا، والغبشة المتكدسة في الأغوار الشديدة العمق، والجمع الغفير الذين
يحدقون به من كل جانب، وخضراء الغاوية بلباسها الطويل وزنارها الأرجواني،
وأبوه في وقفته المتضرعة المسحوقة، كأنها جميعها أساطير تحدث في طقوس
الإنسانية الأولى وأنه بروميثيوس المنشور في الحكايات الميثولوجية العتيقة،
الذي أخبره عنه معلمه نبيل السواحلي في إحدى الأمسيات على بيادر غويران
الوطا. شخصت في ذهنه فكرة التمرد والتضحية في أعلى امثولاتها، أغمض عينيه
ثانية حتى لا يغوص في حمأ العالم الخارجي، والعلق البشري الذي يدب على جسده
المراهق ليمتص منه تفتحه البدئي، أوغل في المسالك الخفية، شعر بأنه ينزل
إلى عالم سحيق، الغاب القديم في الخليقة الأولى، غرائز الامتلاك المتوحشة
تدفع قابيل ليقتل أخاه هابيل، ويمتلك المرأة المتوقدة في عروقه حنيناً إلى
الالتصاق ببرزخ الجسد الآخر، وتجديفاً على القربان الذي لم تقبله الآلهة،
أفزعته القيعان المظلمة في البحيرة الداخلية، أفزعه صقيع الخواء في حقيقة
العلاقات البشرية، والميل إلى الذئبية والتحكم في مسار الخليقة، أنات
المسحوقين، نسيس الجلود المحروقة فوق المجامر، ضراعات وجوه مطموسة الملامح
تولول في صحارى القسوة والهمجية. عصف به إحساس مقرف بأن القيم العليا
المصلوبة فوق آفاق هذا العالم هي حلم موهوم، وأن الحياة التي عاشتها
الإنسانية في ظل العذاب والعبودية هي كذبة عريضة. وطفا من جديد بإحساسه
الخارجي إلى عتبة البارحة، يوم رأوه مع خضراء في غابة المزار، يحوش لها
ثمرات الزعرور البري، ويجمع لها باقة من زهيرات خريفية، لم تجفف روح الصيف
من نداوة براعمها، وتقاذفته تساؤلات في تلافيف دماغه. وماذا لو أحب خضراء
وأحبته؟ هل يعرف الحب طبقات وفوارق؟ أليس القلب البشري يخفق للحب والجمال
واحتضان الجنس الآخر أينما وجد؟! ألم تكن خضراء زميلته في المدرسة، خمس
سنين، قبل أن تتفتح أنوثتها، ماذا جنت يداه عندما لمحها مصادفة في الغابة؟
وهو يلتهم حروف كتاب أعاره المعلم له، ألم يحفظ عن ظهر قلب حديث الحكمة
القديمة (إن الناس سواسية كأسنان المشط وليس لعربي فضل على أعجمي إلاّ
بالتقوى). التمع هذا الحديث في ذاكرته كبريق ليلة داجية، وغاص في تأملاته
مسائلاً: أية سواسية هذه التي نفذتها شرائع الإنسان؟! رشيد مبارك يصلي كما
يزعم كل الأوقات، ويصوم ويبتهل، ولكن بفعله يغاير روح الشريعة، الهوة عميقة
جداً بين النظرية والسلوك .كل شرائع الوجدان لن تدخل العزاء إلى قلبي، إلا
إذا تجسدت في سلوك أصحابها، قذف تلك العبارات الأخيرة في الخواء الداخلي،
ارتعش وجدانه الديني من هذا الحوار. لمس شرخاً شاقولياً في عفوية مُعتقده
الذي حاول أن يبنيه أبوه ابراهيم الجعفي على صخرة هشة، من التسليم وإيمان
العجائز، صعد من جديد من رعوش نفسه وشعاب الأعماق، وفتح عينيه، والتقط
العالم الخارجي، فتلامح المعلم نبيل السواحلي يحدق إليه في ألم أخرس،
وتتشربه نظرات حزينة من الجموع المحتشدة حوله، إنه فريسة آل مبارك، يتوخون
أكله، وقضم كل عروق الحياة في جسده، عصف به إحساس غاضب، أن يرى المعلم
صامتاً أمامه، لا يبدي حراكاً أمام هذه المهزلة، فأطبق جفنيه، يسحق الصور
المنزوفة في الداخل، أمه وطفا تشعل سراجاً تنكياً في مغارة قريبة من غويران
الوطا يوم تدلف البيوت الطينية من هول الشتاء ويتسرب البلل إلى الفرش
والمؤونة الشتوية، ويهرب الجرود إلى رحمة المغارة، ويمكثون ليلات طويلة،
والريح تزمجر، تقرع طبولاً أسطورية، والمطر يتساقط في وحشية، فيغمر السهول
والبيوت المنخفضة، وتنام العائلات في أرضية المغارة، ويلهث السراج التنكي
بزبالته، فيحفر أشباحاً غريبة التشكل في قعر الصخرة وتجاويفها العنكبوتية،
وتصدى الأساطير المبثوثة في عقول الأطفال، برجع صيحات الأغوال، واستطالات
القوة الخفية وراء الأزمنة العتيقة. أقشعر جسد المصلوب أمام هزات عنيفة في
شعره الذي أمسك به رشيد مبارك وغدا يشده ليملصه من جذوره. هذا الشعر الفاحم
الطويل الذي كان يتباهى به غيلان الجعفي أمام صبايا القرية وبنات هلوك
الفارعات، وصرخ به مهدداً ومنذراً:‏


سأكشف
سوءتك أمام هؤلاء النسوة ليبصقن عليها، وأدعك عارياً كما جلبتك أمك يتفرج
عليك كل من في الحارتين، إذا لم تقسم باليمين المعظم على مزار جدي الشيخ
اسماعيل بأنك لن تقترب من خضراء بعد اليوم، ولن تحاكيها ولو بهمسة، وإذا
سمعت غير ذلك، فسأقتلك رمياً برصاص مسدسي هذا وأريح القرية من حشرة قذرة،
ولدت في مزابل غويران الوطا. أصاب الرعبُ غيلان الجعفي حينما شعر بأنه
سيتعرى أمام النسوة والجمع المتزاحم، ويبصقون على سوءته في عري قبيح، ويبقى
معارة القرية إلى نهاية عمره، وقد نال منه هذا التهديد أكثر من سياط
الجلاد. أحس بخجل كريه عصف به غثيان مهووس، تشخص أمامه العالم فئراناً
جائعة تقرض بأنيابها مابين فخذيه لتقتل رجولته إلى الأبد، وسحقه أكثر من
ذلك أن خضراء تجبر على ماتفعل النسوة والآخرون، أحس بيد رحمة تمسح الدم
المتخثر عن فمه وجلده المشروخ في بعض جوانبه فأبصر والده بقمبازه الممزق
وطربوشه المتسخ ذي الشرشوبة المقطوعة، يهمس في أذنه:‏


- لا
تتردد. أقسم له يا ابني على ذلك، نحن معترون لا حول لنا ولا طول أمام أسرة
رشيد بك مبارك. لا تيبس راسك، الفضيحة قادمة والنسوة يحضرن بصاقهن ليصمنك
بعار يبقى طويلاً يرددنه على التنانير ويحكينه بجانب المواقد الشتوية.‏


انفجرت
دموع ثخينة من مآقي غيلان الجعفي كانت متأبية على الانفجار، رغم الضربات
المبرحة، وأدمته أكثر من قضبان الرمان، مظاهر الذل والمسكنة المهينة التي
يتردى بها الجرود، والخوف الذي يعشش في عروقهم وتصوراتهم أومأ بالموافقة
والقبول، وتقدم رشيد مبارك في زهو طاووس وقد ارتسمت على ملامحه علامات
الفوز والانتصار، وفك عقدة الحبل، وأطلق يدي غيلان الجعفي من عقالهما، وزعق
معتزاً بفوزه:‏


- قبل يدي ورجلي وبوس الأرض أمامي، فأنتم الجرود الذين تربيتم على فتات موائدي، ونتاج أرضي، لا تأتون إلا بالجلد والسوط والمهانة.‏

طغت خاطرة متمردة
في ذهن غيلان الجعفي وحاول أن يرفض تقبيل رجليّ رشيد مبارك ولكن والده
المسكين أمسك برأسه وشده إلى أسفل حتى لامست شفتاه الداميّان الجزمة
العونية اللامعة وتركت خطاً أحمر باهتاً على أطرافها، وانهض غيلان الجعفي
وهولا يقوى على الوقوف وأمسك به والده ابراهيم الجعفي وأيوب السارح من
ذراعيه وقاداه إلى مزار الشيخ اسماعيل مبارك وهو يكاد لا يتوكأ على رجليه
من شدة الإعياء والضرب الوحشي، وخلفهم حشد من الأهالي في مقدمتهم أحمد
النقي شيخ القرية ومقيم الطقوس الدينية، وزلمة رشيد مبارك وكاسر رشيد مبارك
الولد البكر، وحميد مبارك أخو رشيد وابنه يوسف المتباهي بقوته وعنفوانه
والخاضع لتأثيرات عمه والموعود بالزواج من خضراء وهلوك الغاوية ذات السمعة
الرديئة وابنها نادر الأعرج وسرحان الخليط وجماعة من الفلاحين من حارة
غويران الوطا. كان الحشد يمشي متباطئاً وكأنه في جنازة، ليشهد قسم اليمين.
وكانت شمس الغروب تلملم آخر شعاعاتها الصفراء عن رؤوس الجبال المغرقة في
صمت الأعالي وتكفن هذا الجمع المعرِّج على المزار الثاوي فوق سرحة مرتفعة،
بغلائل الغبشة، كأنها أبت أن تكون شاهداً على مهزلة بشرية، تتشكل في جانب
شديد التخلف من هذه الأرض الملوَّعة، التي مازالت علاقة إنسانها، تهبط في
مهاوي الوحشية الأولى، ومستقنع العبودية، وإذلال الإنسان لأخيه الإنسان بلا
رحمة، في علاقة ذئبية تتآكل فيها القيم والنواميس العليا، وتسود شريعة
الغاب، ويلغ القوي بدم الضعيف، كأن كل الرسالات السماوية، وصيحات المصلحين
الإنسانيين، ذهبت أباديد، كصوت يموت في مغاور الزمن الغريب وفي جب الغرائز
الأولى.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://starlook.alafdal.net
 
خرائب الأزمنة الفصل 1
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خرائب الأزمنة الفصل 14
» خرائب الأزمنة الفصل 15
» خرائب الأزمنة الفصل 16
» خرائب الأزمنة الفصل 18
» خرائب الأزمنة الفصل 2

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ستار لوك :: الروايات-
انتقل الى: