منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ستار لوك


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خرائب الأزمنة الفصل 2

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
BaSmA iBrIz

BaSmA iBrIz


انثى عدد المساهمات : 1387
تاريخ التسجيل : 04/03/2011
العمر : 25
الموقع : /https://starlook.alafdal.net

خرائب الأزمنة الفصل  2 Empty
مُساهمةموضوع: خرائب الأزمنة الفصل 2   خرائب الأزمنة الفصل  2 Emptyالخميس 23 يونيو 2011, 14:18


الفصل الثاني

انكفأ غيلان الجعفي بعد هذه الحادثة إلى
سراديب الصمت والإغراق، وراح يحفر في أعماقه أو جاراً من التأمل والقراءة
المتواصلة في الكتب التي كان يمدُّه بها نبيل السواحلي والذي كان يسكن غرفة
من غرف المدرسة المؤلفة من غرفتين إحداهما للسكن والأخرى للتعليم. كان
موقع المدرسة بجانب الغابة الصغيرة التي تجثم فيها قبة الشيخ اسماعيل مبارك
الجد الأول لأسرة مبارك، وعلى مقربة من القبة، أقيمت تكيُّه منعزلة يركن
إليها محمود مبارك الصوفي النزعة الذي آخى بينه وبين الجن، واعتزل عالم
الزوال، بعد أن ساح في البراري، وخالط كما تزعم الروايات الفلاحية الأشباح
النورانية والأصوات الخفية، التي يسترق منها السمع والمناجاة المشبوحة في
الليالي العاتمة، تحت ظلال الصنوبر، وقد حكى عنه الفلاحون في جوبات الشعرا
أنه كان يستحم في العتمة عارياً عند نبع الصفا وينادي أشياء غير مرئية،
ويربض مثل صخرة، فوق مطلات الأودية وتعتريه نوبات الصرع، وتزبد شفتاه
ويُلوِّح بيديه في فراغ مجنون، ثم يعود إلى حاله الطبيعية، كأن شيئاً لم
يحدث. كان غيلان الجعفي يراقب الشيخ محمود مبارك في هدأته، وتطغى عليه
تساؤلات عما يدور في رأس هذا الشيخ الغريب الأطوار الذي عاف مملكة الدنيا،
وترك لأخيه المتسلط رشيد مبارك الأملاك الواسعة والأراضي الممتدة، ولم يبق
له إلا حاكورة المزار، وغرفة صغيرة لها باب شمالي وتكية على شكل جامع مربع
دون مئذنة، تسكن الغرفة امرأته العاقر زليخا المهلوسة مثله، التي لا يعلم
عنها أي شيء قبل مجيئها منذ عشرين عاماً، من احدى القرى البعيدة، وتوطنها
في غويران الوطا، وتصرفاتها المريبة التي لقيت انسجاماً مع عقلية صاحب
التكية وتقلباته المفزعة، وكان رشيد مبارك يؤمن لأخيه الشيخ مؤونته ولباسه
مقابل تنازله عن الأملاك وكانت للشيخ محمود مبارك حالات خاصة، يصعب فهمها،
يبزغ فيها الصفاء وحسن المعاملة للتلاميذ الفقراء الآتين من القرى البعيدة
إلى المدرسة، إذ كان يلاطفهم ويجلب لهم الخبز المغموس بالزيت، وفي الحالات
المعتكرة يتلبسه شيطان، ويُظهر أقسى ضروب العنت والقسوة، ولا يُفهم مايجري
من تقلبات هوج في قحف ذلك الرأس الكبير الذي يعتمر طربوشاً أرجوانياً، فوقه
شاش يبدو ناصعاً أحياناً وشديد الاتساخ أحايين أخر. وتروي حكايات القرى،
أن الشيخ محمود مبارك كان يتميز في غابرات أيامه بعقل راجح وثقافة دينية
واسعة، ولكنه وقع من رعش جبلي على رأسه، عندما كان يطوف في الجبال لاصطياد
الغزلان والحجل، فحدثت له رجّة في دماغه، وضعت بصماتها على سلوكه، وغدا
يذهب في غيبوبة الصرع، فيهربُ منه الأطفال، وصار يحُسُّ بقدوم هذه الأوقات
الخاصة، فيلجأ إلى تكية لا يخرج منها إلا بعد أيام، أو يُسرع إلى المغارة
الكائنة وراء الجبل، يتحنث فيها أيام الصيف والخريف ويشربُ من اليبنوع
ويلتقط "ثمر" البلوطة الهرمة ويأكل منه ويصحب معه زوّادة تكفيه زمناً، وقد
تألم لما جرى لغيلان الجعفي، لأنّ رابطة خفية تشده إليه، ترجع إلى سنين
قديمة، حينما كانت وطفا أم غيلان الجعفي في ريعان فتوتها صبية مغرية،
ينظرها الشيخ محمود مبارك أثناء احتطابها من الغابة، ويساعدُها في جمع
الحطب، ويغمره عُريها ذو الرائحة الغريبة التي كان يتندر بها في حالات
سكره، ويتمتم أسفاً على ماضي حياة، ذهب ولن يعود، ولم يدر غيلان الجعفي سرَ
هذا العطف الذي يكنُّه له هذا الشيخ، وخاصة أن حادثة الصلب والتشهير به،
تركت في أعماق الفتى ندوباً وكراهية ينزان حقداً على عائلة آل مبارك، يبقى
كل فصل الخريف يتجنب التكلم مع خضراء التي كانت معه في غرفة المدرسة، غير
أنه كان يهيم في مروج عينيها الخضراوين وتبهره سمرتها المتألقة، التي تنضحُ
فيها روح الصحراء اللاهبة، وبخدها الأسيل الذي تسبح فيه شامات ثلاث، تقودك
إلى لهفة العناق وحنين اللمس المدله، وخصرها الأهيف المتكسر في مشيتها،
كأنها نخلة متأودة في بداية عمرها. كان كلما أبحر في رؤية عينيها، ساقته
أحلام المراهقة إلى جزيرة منسية في المحيطات الدافئة، واكتسحه شعور غامر
بأنه لن ينال منها إلى بالحلم، فطاسة حارة تدفئه وطاسة باردة تجعله مقروراً
في الخواء، وينسرب إلى وجاره الخائب كخلد يحفر سرادبه، يجتر في صمت الخيبة
كلَّ أوهامه. كانت المراقبة شديدة، والتُّرصد إزاء أي حركة منه، فيَغَض
الطرف حينما يرى أحداً ينظر إليه، حتى الطرف ممنوع عليه، البراكين تغلي في
داخله، وبنات الشوق يحنن ظامئات إلى لحظات من اللقاء المنفرد.


لم يبق أمامه، إلا أن يبرز في الدراسة ،
ويتفوق على أقرانه. وهبته الطبيعة عينين جميلتين فاحمتين نجلاوين، يلمع
فيهما سراب شاعري، وحاجبين مقوسين كثيفين كأدغال الجبال المنيعة على
الاحتطاب، وجبهة عالية ترود فيها قابلية إمكانات ذهنية، ويغطيها شعر أسود،
كانت كل ملامحه تنم على فرادة، وجهه الحنطي الذي تشوبه حمرة خفيفة. شفتاه
الذابلتان الرقيقتان، أنفه الأقنى ذو القسّمات اليونانية، الذي ورثه عن
أمه، حتى أنه بمجمله، كان صورة عن عمه يونس الجعفي الذي قتله الأتراك رمياً
بالرصاص مع أخوته، وقذفوا بجثثهم في ديسة شائكة خلف هذه الجبال، بعد حرقها
تحولت أجسادهم رماداً ثم قبوراً، وصفائح مصقولة، وشواهد من الرخام الأبيض،
تبرز من بعيد، وكأنها مناراتٌ توحي بأن ليلاً من الظلام والطغيان خيم على
مسالك قرون من الهمجية. ورغم أن جسد غيلان الجعفي كان يميل إلى الهُزال
والنحافة فإنه كان متين الأعصاب قوي العضلات، زاده التحدي انشداداً
وتحفزاً، كان يقضي معظم النهارات مع معلمه نبيل السواحلي، يشعل له النار،
ويشقف له الحطب اليابس، ليصطلي به في الوجاق الريفي، ويؤمن له مؤونته من
غويران الوطا، ويجيء إليه بالبيض البلدي والسمن والحليب، ويلتقط له ثمرات
البلوط كستناء الفقراء، وكان شتاء غريبٌ لم يمر مثله منذ خمسين عاماً كما
تقول عجائز القرية. مَسَحَ الآفاق بالزمهرير العاصف، استحالت فيه الأرض
صقيعاً يابساً، وغدا التراب جامداً كصفحة بللورية شديدة الانزلاق وانقطعت
الدروب ولم يعد غيلان الجعفي قادراً على الرجوع إلى بيته، إذ داهمه
الزمهرير وحاصرته عناصر الطبيعة الهائجة بعيد الغروب فطلب منه معلمه أن
يمضي ليلته في غرفته وبجانب التكية، كانت البرودة تقضقّض العظام وتنخرُ في
الأوردة، والليل زهرةٌ سوداء، ترتجف في العراء الجبلي، والريح طبولٌ
رجوجيةٌ تولول في العالم الخارجي، والقنديل ذو الزجاجة المكسورة في الأعلى،
ترتجف ذبالته أمام لهاث الريح حينما ابتدر المعلم نبيل السواحلي قائلاً:


- هل لي أن أبثك حقيقة كنت أخفيها عنك، أثأر لك من آل مبارك؟

جحظت عينا غيلان الجعفي، التمع فيهما وميض
راسب، بانت على ملامحه آيات التعجب والاستغراب، وهو الذي رأى بأم عينيه أن
معلمه لم يُبد حراكاً أثناء ربطه إلى السنديانة وجلده، وأردف:


- إن الغريق يتمسك
بقشة. حقدي على طاغية آل مبارك يغلي مثل البركان الذي أخبرتني عنه بأنه كان
مشتعلاً في الأدوار الجيولوجية الأوّلى وانطفأ تاركاً حممه، أما أنا
فمازالت حممي مشتعلة في قلبي..


درج المعلم نبيل السواحلي سيجارة من علبة
صدئة، وأشعلها من ذبالة السراج، وتكوّم حول الوجاق على بساط حائل، وأمر
تلميذه أن يجلس بقربه،ويشعل النار بالحطب اليابس، ونفث عدة نفثات من
سيجارته، وتعالت أبخرة نارنجية لها مذاق الدخان الجبلي الذي تنتجه حواكير
القرية، وعبير الصنوبر الذي يُعلق بأغصانه الدخانُ الأخضر، ليجفف بوقدة
الصيف ويمتص رائحة الغابات الغافية في جوبات الشعرا، سافر بعينيه وراء فحمة
الليل الزمهريري، غاص بمخبآت الآتي النضالي والمعوقات الشرسة التي تنتصب
في دروب الحياة المقبلة قبل الوصول إلى تحقيق الأهداف السامية التي ربط بها
نفسه برباط مميت لا تنفصم عراه حتى آخر عمره، وهمس قائلاً: في ذروة الشدة،
وبؤرة العاصفة، ولد حزب ثوري السمات عربي النزوع، حمل على كاهله رسالة
العودة الى التاريخ، وحرق جسور التخلف وإزالة رواسب عصور الانحطاط وتحطيم
نير الفقر والظلم والجوع عن المسحوقين ونسف التخوم الإقليمية وقد ارتبطت
بمبادئه رباط الجنين برحم أمه. سرح غيلان الجعفي في وقدة النار الملتهبة،في
الأثفية."الوجاق" غاص في جمرات حمر كانت ترمي شرارات لا معة مع عواء
الريح، وترسم استطالات شبحية متراقصة فوق الجدار، تنقل الرائي إلى مغاور
الأساطير العتيقة. وغمغم قائلاً:


- معنى هذا سنغرس
البذور في تربة الفقراء والمرابعين، وتتوالد الأجنة الجديدة في أذهان
المعترين في حارة غويران الوطا والقرى المسحوقة وربما لا تثمر في جيلنا
هذا، وسنجازف بالحاضر من أجل المستقبل.


ارتجفت شفتا المعلم نبيل السواحلي
والسيجارة في فمه ارتجافاً قلبياً، وأوغل بناظريه في الجمرات المزغردات في
الأثفية، وران صمت متأمل،وراح غيلان الجعفي يتأمل معلمه كأنه يراه أول مرة،
تزحمه ملامحه المعبرة، عينان عسليتان ثاقبتان، شعر خرنوبي ابتدأ الصلع في
مقدمته، ينحسر عن جبهة عريضة سمراء فوقها ظلال أفكار وتوجسات بعيدة، أنف
ضخم تبرز من كوتيه شعيرات دغلية، ينتهي بفم حزين، ارتسمت فوقه انقباضات
إرادة، برزت الوجنتان كأنهما صخرتان محفورتان بجبل عظمي. اشاح بنظرته عن
تقري ملامح معلمه وسمرها بالحوّار المتآكل الذي تشقق عن الجدار، فظهر كأنه
تضاريس خارطة قديمة العهد، انطفأ السراج من هول ندب الريح في الوجاق الصاعد
إلى السطح وتفننت النيران الهاربة في رسم تلاوين بدائية، وشخصت في ذاكرته
صور السنين الماضية، يوم كان المطر يطوف على سطوح البيوت الطينية، فينسرب
إلى سيباط المنازل، ويبلل المؤونة من البرغل والطحين، "وسدونات" التين
اليابس، وتسبح المواعين والفرش في سيلات الوكف، وتعمُّ الظلمة زواريب
الحارة المنخفضة، ويدب الرعب الكوني، خوفاً من مستقبل جوع قادم وخشية على
الصبيان الصغار الذين كانوا يرتجفون من البرد والصقيع والوكف مثل قطيع من
الماعز، دهمته العاصفة الثلجية فوق منحدرات جبال الشعرا وجعلته لا يدري إلى
أي اتجاه يسلك. مزق حجب الخواطر الداخلية صوت المعلم نبيل السواحلي وهو
يقول:


- حقاً سنجازف بالحاضر من أجل بزوغ فجر
جديد، وقد لا يطلع هذاالفجر في زمننا بل بعد موتنا، وربما سيقطف أحفادنا
ثمار عطائنا الصامت. الليل طويلٌ، وركاماتُ عصور الانحدار مازالت تغلفنا
بمفهوماتها الصمّ، القدر المُصلت على رقابنا وأرواحنا ينثر خوفاً غيبياً
على مصائرنا، غايتنا أن نثقب كوىً للنور والتقدم، وقد نتحطم ولكن لن نهزم
أبداً... وأشعل سيجارته من جديد، بعد أن أطفأها رذاذ بلل خارجي انسرب من
الوجاق الطيني، وشرع يفرقع بين الأغصان المحترقة، قُرع الباب الخشبي قرعاتٍ
متشنجة أذهلتهما. نهض ، نبيل السواحلي، أزال المصراع الحديدي من خلف الباب
وفتحه. شخص شبح الشيخ محمود مبارك من وراء العتمة، ونادى كأنه في العراء
الجبلي:


-لا أطيق زمجرة هذا
الليل القطبي وحيداً، نامت امرأتي المهبولة، لا يطيب شرب كأس العرق إلا مع
صوت أنسي، كرهت مصاحبة الجنيات المشرورات في قحف رأسي، إذا لم تأتيا إليَّ
سأكسر هذا الباب وأترك الزمهرير يعضكما بأنيابه البيض.


وانكفأ راجعاً الى تكيته، وأشار المعلم إلى غيلان الجعفي موضحاً:

هذه أوقات الصحو الشديدة التي تعبقها
نوبات الصرع. أصبحت أعرف سلوكه في كل دقائقه، العالم الإنساني يتلبسه في
تلك الأوقات، يعانق كل شيء، تنهمر أمطار التعاطف من بحيرة لا شعوره، قبل أن
تصطخب شطآنها بجنون الصرع وطفو الزبد، هلمَّ قبل أن يعود ثانية ويكسر
الباب.


يتبدى العالم الخارجي في أقصى عريه
الغاضب، ظلالاً غريبة ينثرها القمر الشتوي فوق سفوح الشعرا. وغابات
كريستالية تلمع تحت بصيص نوره الشاحب كأنها منافذ كهوف مسحورة يضرمُ بها
الجنُ مواقدهم وقرابينهم، فتخرج لمعات منها إلى المسالك والشعاب الليلية،
والريح تُعْوِل، كأرغونات اسطورية في بحار الشمال، رغم أن السحاب الكثيف
نام على أكتاف الجبل، وعادت السماء القديمة إلى صفائها، وانقطع وابل المطر،
وتشكلت لوحات الأساطير الأولى بين الفجوات والحنايا الصقيعية، وكان "غيلان
الجعفي" مبهوراً بهذه اللوحات التي ترسمها الطبيعة الجبلية، مختزناً
بمخيلته المتفتحة روائع التلوينات الطبيعية. كان باب التكية مفتوحاً، وفي
الزاوية الشرقية، التمعت نار مشبوبة في "وجاق" ريفي، طين برسوم بدائية،
وانطباعات أصابع معروقة، غاب أصحابها وغادروها، بقايا من القش الأصفر
والطين. لم يتجرأ غيلان الجعفي منذ عشر سنوات أن يدخل هذه التكية. كان ذلك
في رفقة أمه "وطفا"، يوم كان صغيراً، تشرَّبت عيناه كلَّ مرتسمات التكية
لما دخلها تحت جنح هذا الليل، المكتبة الخشبية التي تبرز في الزاوية
الغربية وقد اشرأبت منها الكتب الصفر والمخطوطات القديمة، السرير الحديدي
ذو العرائش وقد اعتراه الصدأ، الطاولة الواطئة، "السكملة" التي يرتاح الشيخ
بالأكل عليها قريباً من الأرض، الكراسي القشية من نبات "السعدي" وخشب
التوت الورسي الصفرة. وكان الشيخ قد قسم التكية الواسعة إلى غرفتين الأولى
كجامع صغير لا يؤمه أحد ليصلي به إلا في الأعياد، والثانية خاصة به يلبث
فيها، وينفصل عن امرأته "زليخا"، التي تنام في الغرفة الشمالية وحدها.
فحياته المتقلبة، ومسارُ سلوكه الغامض، وسرحاته في الشعاب، جعل امرأته تخاف
أن تنام معه في غرفة واحدة، فتضرعت إليه أن يقسم التكية إلى قسمين بجدار
من الحجارة السميكة، وأن يعيش لياليه مايحلو له، ولولا خوفها من "أخيه رشيد
مبارك" لهجَّت منه إلى القرى البعيدة، لأن النداءات التي تسمعها أحياناً،
والمخاطبات المجهولة التي يسوقها زوجها في صمت الدياجي وحيداً، خلقت فيها
رعباً كافياً، ماخلا أيام الصحو المُتَسِمَة بالرضى والإنسانية واحتضان كل
شيء. استقبلهما الشيخ محمود "مبارك" استقبالاً حافلاً بالمودة والتقدير،
حتى أمسك بيد غيلان الجعفي، وأجلسه بجانب نار الوجاق ووسّع مكاناً دافئاً
للمعلم نبيل السواحلي، وأتى بقرمة ريحان يابس وأطعمها للنار، وتعالت
زغرداتُ الاشتعال، وانتشل من تحت السرير ألفية من العرق المقطر من عنب
الأودية الغافية تحت أقدام جبل الشعرا حيث تكثر الأعناب، وتقطرُ خفيةً في
الأماكن المهجورة، ويضاف إليها اليانسون وتسّحَبْ مرات عدة، وكلما سُحِبَت
بواسطة "الكلكي" طاب طعمها وزاد ثقلها في الحلق، وتفشت نشوتها في العروق،
صبَّ كأسين من العرق المسُلَّس، وطفت حبيباتُ فضيةٌ فوق السطح، وتوهجت
بانعكاسات نار الأثفية، وانتشرت روح الكروم،ومزجها بصبات من الماء البارد
من كوز فخاري، وانتفض ضبابٌ جبلي، وفار في قلب الكأس المزبدة.


أحس غيلان الجعفي بأنَّ ضبابة تجتاح
مخيلته، وتقوده إلى تراجيع طفولته، يوم كان صغيراً، يحتطب مع والده في
الغابة، ويجمع القُرَم لليالي كوانين دهمهما الضباب مرة وغاب عنه والده،
وغدت المشخصات أغوالاً مشبوحة، وانتابه هلع غريبٌ، وصرخ مستغيثاً كأنه في
دوامة نهر هائج، أسرع والده إليه، احتضنه وافرخ من رَوْعه، وظل الضباب بعد
هذه الحادثة، يزحف إلى مخيلته، وينشر جناح طير الرَّخ في حكايا (ألف ليلة
وليلة). أخرجه من نَزّْفِ خواطره، نداء الشيخ محمود مبارك وهو يترع الكأس
حتى الثمالة:


-روح الكروم تنفذ
إلى كياني، تخلق فيَّ دوافع صوفية لاحتضان العالم. يطيب لي الشرب وأنا عارٍ
في غابة الشعرا بجانب جدول ماء رقراق، في صبحيات نيسان الغرير، أتشمس
وأترع الكأس حتى أُغَيَّب، وقتئذ تسكنني فرحةٌ شبيهة باختلائي بامرأة
غريبة، وسط تلك الجوبات المنعزلة، كم يصيب الخوف المارين هناك، وخاصة
النسوة اللواتي يحتطبن من الغابة عندما يرينني أمارس طقوسي العارية، وأشرب
الكأس وأستحم بروح الكروم في سكرة الإحساس الخاص.


درج من علبته سيجارة وأعطاها للمعلم، ولف
ثانية ودسّها في فمه، أشعلها من طرف المحراك المتوقد، وأمرهما أن يسكبا
الكأس حتى الثمالة في جو فيهما؛ لأن ذلك بداية الطقس التصوفي حسب تعبيره،
واعتراهما الخوف من هذا الطلب، لكن نظراته اللاهبة قتلت إحجامهما، وانسكبت
الكأسان في الجوفين. شعر غيلان الجعفي الذي لم يتعود على تلك الحالات
الخاصة بنار خفيفة تسري في داخله، تلاها دفءُ انشراح، انكشف عنه خجله، غدا
يبرق ذهنُه، وامتلأت الكأس ثانية، ارتشف الممعلم نبيل السواحلي رشفات
مسموعة وهمس قائلاً في مواربة:


- أتمارس هذا الطقس
الصوفي كما تقول، منذ زمن بعيد يا شيخ محمود! أليس هذا منكراً، وقاتلاً
لصحتك وتوازنك؟‍! وخاصة أنت من أعيان آل مبارك وشيوخها المعدودين.


قهقه الشيخ قهقهات هستيرية، واستلقىعلى
قفاه من الضحك، والتمعت في عينيه الزرقاوين سحابةُ برق وارتجفت شفتاه بشكل
ضارع، وتقلصت أصابع يديه بهيكل مخلب قط يريد أن ينقضَّ، خشي المعلم أن تكون
تلك المظاهر بداية الصرع المأزوم، استرد الشيخ هدأته، غابت عاصفة ملامحه
الغائرة ، تراجع كحمل وديع إلى طبيعته، شد لحيته الطويلة التي غزاها الشيب،
كشف رأسه عن طربوشه المحاط بشاش أبيض دلالة المشيخة، انحسرت جلدة رأسه
المحلوقة على الصفر، اتكأ على مخدة وسخة بجانب الطاولة الواطئة، ومصّ حوافي
الكأس، كأنما يداعب شفاهاً خمرية،وسرح في البعيد، ليتذكر خيطاً من
الذكريات المحفورة في تربة الماضي وهتف بصوتٍ متحسر:


- كان ذلك منذ
ثلاثين عاماً، الشباب تنور جبلي يفور، الجنس يتنزى مني كثيرانٍ في موسم
التلاقح، جسدي، جذع شجرة الشربين يهزأ بالصخور من متانته. نسوة القرى
يلاحقنني ليتوحمنَّ عليَّ، لعلهن ينجبن شبيهاً بي وطلباً لمراودتي. كان
الصيد حلمي، شهوتيّ إلى اقتناص أي شيء، نسوة، غزلان وطيور، تسري جمراً في
عروقي، العالم ملك يدي، جاه وغنى وشباب، كانت بنت العنقود محرمة عليَّ، كما
تعلمت من الحكمة القديمة (الخمرة رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه).، أوغلت
مَرَّة في دغل كثيف، نفرت غزالة لم أشاهد في حياتي أجمل منها، بيضاء
مشرَّبة بخطوط رمادية، لها طلعة آنسة في بداية تفتحها، تبعتها، كانت أرشقَ
مني بين الصخور، زاحمتها في مكان لايبين ماخلفه، أسرعتُ في قفزي، الصخور
حريرية الملمس، نعناع بري أفعمني، انزلقت قدمي، هويتُ من أعلى رعش صخري،
سقطت في السفح المنحدر، كسرت رجلي، وقعت على رأسي، لم أدرِكم بقيت
مغميَّاً، عُثِرَ عليَّ مطروحاً، رأسي ينزف دماً من الخارج، رجلي جُبرت،
ولكن مابداخل رأسي لم يجبر. أشعر منذ ذلك الوقت أن شخصين يتعاركان في
تلافيف دماغي؛ أحدهما شديد الصحو، يقودني إلى المألوف وحياة النمل، والآخر
يحب الطفر في اللامكان، إني مسلوب الإرادة إزاءهما أتفرج عليهما في غرابة،
وأخفف من حدة صراعهما، بترع الكؤوس وسريان روح الكروم، واقتفاء آثار
المتصوفين المسحورين في هباتهم وسرحاتهم الخاصة. أغلق كلٌ مغارتَه، خيمت
سكينة متأملة، خفت صوت الريح في الغابة الكريستالية، غرق الشيخ محمود مبارك
في أوجاره النفسية، راح يترصد فوّارات الذكرى في أعماقه؛ صورته في ريعان
شبابه، يطارد نسوة القرى اللواتي يحتطبن من الغابة الكائنة وراء سفوح
الجبال، ينشرن رائحة ذات مذاق مثير، يشمها الشيخ محمود عن كثب، وينقلها
الربيع إليه نزوعاً إلى التأرجح فوقهن على مرجات االعشب النامي وراء
المنعطفات والخلوات العجيبة، وتقري تلك البرازخ الجسدية في ذروة الاشتهاء،
وإغماضة اللذة، وهبت كوثر من بينهن جميعاً فوق رماد ماضيه، فتاةٌ في
السادسة عشرة من عمرها ترعى عنزاتها؛ النهدان مكوزان في بداية تفتحهما،
زغبها الحريري، طعم جسدها الفائر، داهمها في الوادي، حمامةً بيضاء، كل
تنانين الاغتصاب التهبت في أقاصي عروقه، الحمامة كوثر ابنة أحد الفلاحين،
اختلت بجسمها، تركت عنزاتها على هواها، غدت تتأمل عريها الغاوي في غبطة،
تحت وقدات شمس أيار الدافئة، وتُفَلي قميصها من البراغيث السود التي كانت
تتكاثر في الصيران وبين روث القطعان. اختبأ وراء صخرة دهرية، أوغل في رصد
عريها، تقرى كل حنايا جسدها في نشوه الاختلاء، غابة ملتفة الأشجار، صمت
الأعالي، لا تقطعه إلا زمزمات نحلات برية، قرقرير معدني يتصاعد من الهوات
السحيقة، حركة النماء تهسهس في داخل الأشياء، اعتراه شعور غابي، فار
التنور، انقض على الحمامة المراهقة، افترسها في عنوة، سحق براعمها البكر،
انتشر قرمزها القاني فوق المرجة، سحرته إغماضتها المصلوبة مابين ذروة
النشوة وذروة الخوف، واعدها أن يتزوجها، اعتاد جسدها على الاختلاء، أثمر
جنيناً، راح ينمو في رحمها، وأخلف وعده بالزواج منها، لم تطق صبراً على
الفضيحة، رمت بجسدها (الخائن) من أعلى الرعش الصخري، وابتلعتها الغيران
والصخور المدببة، تناقلت القرى أسباب انتحارها، ورأى بعينيه أعضاءها
المهشمة ولحمها الممزق. لوّح بيديه في زاوية الغرفة، ليبعد عنه الأشباح
الحزينة، وهرع إلى الألفية، وحاول أن يدلقها في جوفه، ليغيِّبَ كائنات
تتعارك في داخله.


وأقعى كذئب مجروح قرب الوجاق ووضع كفيه
فوق عينيه، غاص في التأمل، مقلباً صفحات من تلك الأطلال والذكريات القديمة.
موصداً باب كهفه من جديد. تناغم المعلم نبيل السواحلي، مع مناخ التأمل،
أبحر في موجات الماضي ومساراته، تراءت له في المخيلة انطاكية وبساتينها،
نهر العاصي ينساب خيوطاً فضية بين الخضرة الغامقة، وأفعمته رائحة الليمون
وعبق الأزاهير، انتفضت أمه من رماد السنين، بمنديلها القزي المطرز بنمنومات
زاهية الألوان، الوجه المغضن الذي جرده الزمن من نضارته، قسوة اليتم الذي
عاناه بعد وفاة والده. أمه قارعت الخطوب مثل فلاح عنيد، سنبلت في حقول
القمح، سقت الأرض بعرقها، ركشت تحت وقدة الصيف الحارق، اعتصرت التراب
ثماراً، ونباتات فصلية كانت تبيعها في سوق انطاكية لتُؤّمن له أن يتعلم في
مدارسها. طغت حكاية اللوائي الذي صرخ قبل أن يلفظ أنفاسه سجلوني عربياً،
وانساب شريط مأساوي في مخيلته، المدُّ المغولي الجديد استوطن دار الأسلاف
العرب، وامتد إلى الجذور التاريخية محاولاً اقتلاعها. المعلم التركي دخل
الصف أول مرة، هدد كل تلميذ يتكلم العربية، بالطرد والعقاب. الجدران الصفر
ذات العيون الخزرية حاصرته، فراغ بلون الظلام تأكله، قيمه الموروثة عن
مروءة الصحارى، راحت تتأقزم، لم يقدر على التكيف والتعلب كرقم أصم، غادر
المرابع الأولى، ومطلات انطاكية ومروج الزيرة وبساتينها، قذفه القدر معلماً
مع لفيف من أترابه، واستقر في قريّة غويران المزار بالقرب من منحدرات
الشعرا. توقف في تلك السرحات، عند جسد يحتضر، لم يدر لماذا تسلقته صورة
أمه. رآها في أرضية بيته خلف الحدود طريحةً، تتضرع إليه، بعد أن رفضت ترك
الأرض التي ترعرت فوقها، ثقبه من الداخل وجهها المكفن بصفرة الموت، نداءٌ
بلون الهاوية يتناهى إليه: (أين أنت يابني لتساعدني في احتضاري؟ عزرائيل
يمدُّ يده إلى رقبتي ليقبض روحي، أنا وحيدة، آه آه يانبيل!). انتفض المعلم
نبيل السواحلي كالمقرور. لسعه صقيع الأعالي، أرعبته النداءات المبهمة، أحس
إحساساً غريباً أن أمه تحتضر وحيدة تحت سقف البيت البعيد، أمسك محراك
النار، وراح يشق الرماد، يحدث خطوطاً متوهجة، انعكست على وجهه ضراوة حزن
غير مجرب، وتقطرت ملامحه أسى واعتصاراً فوق كلاليب الطاحونة الوثنية،
والتقط غيلان الجعفي معنى ذلك الاعتصار، وهمس قائلاً:


صورة مأساة، انعكست على وجه، حملتني إلى
خوف غولي، يوم كنت ولداً أرعى عنزاتنا في الجوبات الغائرة، ويصيبني النعاس
فأنام تحت أفياء البلوطة الهرمة، وتغيب الشمس، وراء الجبال الغربية، وتحل
العتمة قبل أوانها، فأستفيق وكأني في عالم مسكون بالأشباح والغرابة،
فتصيبني رعدة من خوف غامض، ذكرتني ملامحك به...


شعر المعلم نبيل السواحلي بكابوس فوق صدره، ودلق الكأس في جوفه حتى الثمالة،وأردف قائلاً:

- لم أفهم لماذا
تداعت إليَّ صورة أمي تحتضر، تتخبط ضارعة إليَّ من الأبعاد، لأعينها في
غروب حياتها، سبع سنين مرت، ولم أسمع أيَّ نبأ عنها، انقطعت حبال الوصل منذ
هجرتي من اللواء السليب، نأت الدار وذكرياتها وتمخضت عن رؤى أمي تموت في
القفر التاريخي.


سرَّح الشيخ محمود مبارك نظراته في
الفقاقيع الطافية فوق كأسه، قشر بذور الكوسا المجففة، رمى بقشراتها في
النار وابتلع لبها، وارتشف رشفات مسموعة وصرخ في انفعال:


- إيماني بالحاسة
السادسة لا يتطرق إليه الشك، قلوبنا تحدثنا عن مصائب مترصدة بنا، وتقع
حتماً، قرأت في كتب التصوف أن من تشف روحه يعانق الوجود، ويذوب فيه، يرتفع
عن النظرة الدودية المحسوسة ويصبح مثل الباشق يحلق في الجو، ويرى أدق
الأشياء تتحرك تحته. وتروي الحكايات الشعبية أن الشيخ صالح الشعراني الذي
اتخذ ريحانة نبع الصفا سكناً له، كان يتنبأ بمخبآت المستقبل، ويتبصر من
يأتيه ليتبرك به عن بعدمسافة ثلاثة أيام، ويناجي شخوصاً لا يراها غيره،
وتحكى عنه المعجزات الخارقة، ومازال حوشه ماثلاً هناك، لا تطفئ أقوى الرياح
ذبالة سراجه التنكي الذي يملؤه أهل القرى بالزيت، تبركاً وخوفاً من عقابه،
والموت حق مكروه، وأمك وراء الحدود، وكل شيء مصيره للزوال.


نهض إلى الدمجانة الموضوعة في نافذة من
الجدار السميك، وفتح سدادتها الخشبية، وفاحت رائحة العرق المتخمر، وملأ
الألفية منها، وأترع الكؤوس ورفع نخب مسامريه. وكان الصحو الذي يسبق
العاصفة يرين على سماته، عيناه الزرقاوان مثل قاع المحيط، يتألق فيهما
بصبوص غريب، شفتاه الغليظتان تنزوان بالشهوة الكلبية، تذكران بالفتحات
الداخلية لامرأة لا ترتوي، أنفه المقوس إلى الأمام، كمخلب نسر يتهيأ
للانقضاض على أفعى ترصدها في الهواء. سرى خدر لذيذ في شروش غيلان الجعفي
الذي لم يتعود على تلك السهرات الطويلة. تدفقت أحلام من كواه النفسية.
خضراء مبارك بجانبه يبوح لها بحبه الأول في ظل الصخرة التي سماها صخرة الحب
الخائب، تشرقه رنواتها الخضر، وتجعله يرتطم بالقاع، من بحيرته الخفية،
تجلده بمرآتها، اللعس العنابي في شفتيها المحرمتين عليه يلمع كفلقتين
حمراوين "لطاب" تين شديد النضوج، الشعر الليلي المنسرح فوق خد أسيل، السمرة
الصحرواية العجيبة التي تنقلك إلى واحات الجاهلية الأولى كل هذه الأشياء
البازغة، مع استحالة الزواج منها أو الانفراد بها، تشربَه شخص سيزيف
المكتوب عليه العناء الضاري بحمل الصخرة الأسطورية من قمة الحلم إلى قاع
الواقع المرعب. عقدة خوف من الخوف تكونت في تلافيف دماغه، صوار باب حديدي
صدئ ينّق في مسامعه، دوائر الأفاعي الرقطاء تراقبه. وشاية واحدة كافية لأن
تقتله مجلوداً بالسياط، وتهجر عائلته من القرية، وترمي بالمؤونة إلى طرف
الزواريب. أخرجه من كوابيسه الحلمية ذات الايقاعات الهمجية، نداء الشيخ
محمود مبارك يزعق صارخاً:


-قوموا نرقص
الدبكة، حلَّ وقت الحركة، هات شبابتك ياغيلان وأطرد الروح الثقيل، واجعلنا
نشفَّ مثل البلور النقي، العالم كله في قبضة يدي. ليت وطفا أمك هنا، رغوة
جسدها القديم، تلاحقني ببياضها، كل صبايا الماضي يمرحن في شراييني.


نهض مثل شاب في فتوة عمره، كمش بيده
المعلم نبيل السواحلي راح يُوقع خطواته على لحن الشبابة، يترنح في دبكته
يمنة ويسرةً. غيلان الجعفي أبرع من ينفخ في القصب، غدا يبدع بتنويعات
الايقاعات ويتلوى مثل درب جبلي بين الأحراش، ويلهب ثقوب الناي كل أشواقه
وخيبته، ويقطع الألحان بمواويل منها ذوب الحنين والرعشة إلى حلم مهيض وأمل
خائب لا رجاء في تحقيقه:






يالقاعدي بالقمر


وغيم السما لحافك

والنجم صارلك كَمَرْ


تيضم أعطافك

طلتِ وطال الهجر


ولا حد عدا شافك

يارب نسمة هوا


ترجِّع حبيبي ليا


ظلت المواويل الشعبية، وبحة الشبَّابة الحزينة، ورائحة
المجمرة البخورية، التي أراق فيها الشيخ محمود مبارك كل مالديه من مدخرات
المزار، وعبق الألفية من العرق المسفوح، كلها تصدى في قلب ذلك الليل
الصقيعي، حتى طفا الزبد فوق فم الشيخ، وحلَّت نوبة الصرع، وارتمى الجسد،
يتخبط بالأرض، وقد تلبسته غولة غريبة من القرون السحيقة، ورفت وطاويط غير
مرئية، وخبت جذوة النار في الوجاق الريفي، ولاذ المسامران بالفرار، حتى
لاتحفر في ذاكرتيهما تلك التخبطات نهاية الضعف الإنساني، والترّدي إلى أسفل
السافلين من المسكنة والمذلة، وحتى لا تذبل كل التماعات تلك الليلة
المعهودة، ارتمى كل منهما في فراشه، محاولاً أن يفتح كوى مشرقة على مستقبل
أكثر إغراقاً بالحدوس المتفائلة، والأحلام الوضيئة التي تحوكها المخيلة
لتُفلت من شراك الواقع، ونظرته السكونية الراسبة في مستنقع الجمود، وتحجر
القيم، وصنمية التقاليد والأعراف، وخنق المعنى الحقيقي للإنسان المعاصر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://starlook.alafdal.net
 
خرائب الأزمنة الفصل 2
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خرائب الأزمنة الفصل 14
» خرائب الأزمنة الفصل 15
» خرائب الأزمنة الفصل 16
»  خرائب الأزمنة الفصل 1
» خرائب الأزمنة الفصل 18

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ستار لوك :: الروايات-
انتقل الى: