منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ستار لوك


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خرائب الأزمنة الفصل 3

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
BaSmA iBrIz

BaSmA iBrIz


انثى عدد المساهمات : 1387
تاريخ التسجيل : 04/03/2011
العمر : 25
الموقع : /https://starlook.alafdal.net

خرائب الأزمنة الفصل  3 Empty
مُساهمةموضوع: خرائب الأزمنة الفصل 3   خرائب الأزمنة الفصل  3 Emptyالخميس 23 يونيو 2011, 14:19


الفصل الثالث

الشتاء
الشيخ مشى بعكازته البيضاء، نشر ثلجاً كثيفاً فوق بيوت الدفش في حارة
غويران الوطا، الرياح الذئبية حملت طوفاناً من المطر، الذي لم يعهده من قبل
سكان هذه النواحي. "سرحان الخليط" الذي نيَّف على السبعين من العمر لم
يشهد شتاء مرعباً كهذا الشتاء، مجاري المياه، استحالت سواقي طافحة، جرفت
معها الزروع، وبيوت الفلاحين انسلخت عنها طبقتها الطينية، وانسكب الوكف من
البيوت البلانية، وجرى فوق المداميك السود، فأرضية البيوت صارت حفراً من
الطين الذائب والوحل، والمؤونة التي ادخرها أصحابها منذ الصيف،
أصابهاالتلف، "سدونات" البرغل والطحين طمَّها الماء، عنابر التين الراكنة
في الزوايا، انسرب إليها المطر وجعلها مثل وحل معجون. حتى قطعان الماعز
وبقرات الحارة ألمَّ بها الجوع. صار الجميع يزحفون إلى غابة السنديان
ليمرشوا أوراق الشجر ويطعموها لحيواناتهم، أو يملؤوا بطونهم أحياناً، عمَّت
النكبة كل شيء، الليالي استطالت كالأبد القطبي. حظيرة أيوب السارح طبَّقت
على قطيعه من الماعز والبقر، واختفت تحت ركام الطين والخشب، تزاحم أهالي
غويران الوطا في عمق مغارة "التمر"، وانحشروا مع مواعينهم وفرشهم وبقايا
مؤنهم التي أمكن إنقاذها وأصبح هذا التجويف الصخري المستطيل ملجأهم الأمين
طوال الليالي الشتائية لا يخرجون إلى بيوتهم إلا ليتفقدوها في النهارات
المريضة التي تتكشف فيها الشمس سويعات قليلة، وكان الحصار عميقاً،
والأحاديث طويلة، فأسرة آل الجعفي، مؤلفة من الأب ابراهيم وامرأته وطفا
وابنه غيلان، ومن ابنتيه رباب الشقراء التي تشابه أمها وسحاب السمراء التي
صورة مماثلة عن أخيها، وقد ركنت تلك الأسرة في الزاوية الشمالية من المغارة
الواسعة، وأيوب السارح الشخصية الغامضة قد انضم إلى أسرة الجعفي بعد أن
طبَّقت حظيرته، على قطيعه الهالك، وتروي القصص عنه أنه تزوج نساء كثيرات
خارج الحدود، أما هلوك الغاوية الأرملة مع بناتها الثلاث اشتهاء، ونجلاء،
ولمياء، وولدها الأعرج نادر فقد استقروا في وسط المغارة، وانحاز إليهم أحمد
التقي شيخ الحارة وامرأته مريوما وولده الوحيد درويش. وفي مدخل المغارة
خيَّم سرحان الخليط العميل المخلص لآل مبارك مع امرأته نظيرة وابنتيها
بلقيس ونعامة وأولاده الثلاثة جابر وجبير وقرعوش ذي الاندفاعات الجنسية
الغريبة، والجنون بأشياء النساء وملابسهن الداخلية والتباهي بالقدرة على
إروائهن، وكانت الأم العجوز، بريبهان تشق العتمة بسعالها الجاف وأنينها
الدائم واحتضارها الطويل، وكانت النار دائمة الاشتعال، والدخان المتصاعد من
الحطوبات المبللة، يرسم أبخرة كثيفة، ويعكس أشكالاً مرتعشة فوق الجدران
الصخرية، كأنها أشباح الماموت المرسومة في كهوف الإنسان الأول. وكانت
تراجيع المطر كوقع المطارق فوق سطح المغارة، وأنين الأعاصير التي تتسرب من
خلال الشقوق السرية، تنفث في النار نفثات شيطانية، وتلوّح بفزاعات متراقصة
بين تجاويف الدهاليز البازلتية التي حفرتها أدوار جيولوجية متعاقبة، حتى
بدت الشخوص العائلية وهي تحيط بدائرة النيران كمثل الجماعات الطوطمية في
بدء الخليقة، وكانت أباريق البابونج الصدئة تغلي على الأثافي الحجرية،
وتسمع بقبقات النقيع المغلي إلى خارج الدائرة النارية، ويُترع أيوب السارح
ويصبُّ كأسين من النقيع الحار، إحداهما له والأخرى لابراهيم الجعفي وينفخ
في البخار الصاعد، ويحملق في جوف المغارة ويهمس قائلاً:‏


لم أشهد
مثل هذه الشتوية منذ أيام "سفر برلك" يوم كنت شاباً في أول عمري مع عصابة،
"الشتا"، نهجم على البيوت المنفردة، وننقب سطوحها، وندخل على أصحابها
نُرَوّعهم، ونأخذ مؤونتهم من العنابر، ونذبح دجاجهم، ونسوق قطعانهم، وننطلق
في براري الدنيا الواسعة، ونقطع الطرقات حتى وصلت بجسدي هذا الذي تراه،
إلى اليمن مقبرة الأناضول، ولقد اقتادني جنود الأتراك من قريتي، الساحلية،
إلى ماوراء الصحارى العربية، وجُبْتُ السراب اللامع وبحيراته الموهومة،
وحوصرنا في شعاب اليمن الوعرة، وهربت مع لفيف من أصدقائي، وشكلنا فيما بعد
عصابة ضد الأتراك، ورمينا بأنفسنا في وحول سفر برلك ومجاعته القاتلة،
واشتريت شرشاً من فدان مذبوح بخمسة "مجيدي" وداومت على العلك فيه، لأخفف من
وطأة الجوع وبعته بعد ذلك بسبعة مجيدي، الله لا يعيدك يا أيام "سفر
برلك"!‏


انطوى أيوب
السارح على ذاته، يلسعها بشريط من الذكريات الأسية، ودرج إبراهيم الجعفي
من علبته الصدئة سيجارتين من تبغ جبلي، أنتجته حواكير غويران الوطا،
وتَسَّمد ببعران الماعز، وعلق بأشجار الصنوبر، ولوّحته شمس الجبال، وتضرج
لون التبغ بحمرة الأصائل الغاربة، وصار طعم السيجارة ثقيلاً، ينسرح في
الحلق، وينشر عبق الصيف. ناول أيوب السارح إحداهما ودسَّ الأخرى في فمه،
فأشعلهما من بصة نار في الأثفية، راحا ينفثان في متعة بائنة، سحائب من
الدخان النارنجي، تدوِّمها بقايا الرياح في المغارة. اشتمت هلوك الغاوية
الأرملة، الملقبة بقبارة الرجال كما يقال عنها، مذاق الدخان المسكر الذي
اشتهرت به حواكير ابراهيم الجعفي وعنايته القصوى، بشكه وتنقيته، وسقايته
لنبتاته في شهر آب المحرق، تناهت إلى مسمعها مقاطع من حديث أيوب السارح،
وكانت تشغف بالقصص والحكايات الممزوجة بالخيال، والمليئة بالشبق
والشهوانية، حتى أن حكاية الحمّال والبنات في ألف ليلة وليلة كانت تسكرها،
وتتمثل أزواجها الثلاثة الذين قبرتهم، وتراكيبهم الجنسية، وكيف كانوا
يتخبطون بين فخديها، كأن جنوناً أصابهم، وكانت في أويقات خاصة، تتحدث عن
حركات كل واحد منهم، واندفاعاته البركانية، وجؤاره الوحشي، وكانت من النوع
النسائي الذي لا يشبع من الجنس حتى أضحت لها معرفة عميقة بطبائع الرجال،
ومواطن إثارتهم ونقط ضعفهم، رغم أنها لم تكن جميلة ومتناسقة الأعضاء، لكنها
تميزت عن الآخريات بنظرتها النهمة التي تنبثق من عينيها الفاحمتين
اللامعتين، وشفتيها الممتلئتين وعجيزتها المترجرجة التي تشدها بحزام ضيق،
فتبرز كثبان رمل ناعم من خلال فساتينها المشدودة. رحل زوجها الأخير عنها في
العام الماضي مسلولاً وترك لها بناته الثلاث وابنه الأعرج القمئ الجسم،
اقتربت من أثفية ابراهيم الجعفي ووسعت لجسمها مكاناً بأن زحزحت أيوب السارح
عن تربيعته، فأبعدت غيلان الجعفي عن الدائرة النارية والجمرات المزغردة،
وصرخت بصوت آمر:‏


- ماهيك
قال الله في كتابو، بتتسلوا وحدكم، بتشربوا أفخر الدخان، وبتملّوا كؤوسكم
بنقيع البابونج والبنفسج، ماضيكم أيها الرجال، بيسكن بين نهودنا، ورائحة
آباطنا، نحن بنات حوا، وتبقى أحلامكم معششة بين طيات لحومنا، وهدهدات
بوساتنا، أنا بفهمكم جيداً، جربت منكم الكثير، هات ادرج لي سيجارة وأشعلها.
شهوة التدخين والحكايا وطعم البابونج كلها بتأكلني في هذي المغارة..‏


خشي
ابراهيم الجعفي من كلماتها القارصة، وهو يعرف طبيعتها ووقاحتها غير
المحدودة، وعريها المفضوح الذي ضجت به زواريب غويران الوطا والقرى
المجاورة، حتى النُسيات كن يخفن من العلقة معها، ويتحاشين العراك معها ولم
تكن واحدة تقوى على منازلتها في شد الشعر، مهما كانت المرأة قوية، فإنها
تسقط تحت قدميها مصروعة، ومنتوفة. أخرج ابراهيم الجعفي علبة التبغ من تحت
اللباد الصوفي، وقدمها إليها فتحتها، تشممتها، فاح عبق التبغ الجبلي في
خياشيمها، أغمضت عينيها في متعة لتستعيد حلماً مقبوراً في ذاكرتها، درجت
سيجارة كبيرة وقضمت نهاية الورق بأسنانها الصفر، بللتها بريقها، وأشعلتها
بمحراك متقد في طرفه، أخذت سحبة طويلة من الدخان الذي غرق في أسناخ رئتيها،
وضربت ركبة أيوب السارح بكف ملامس وقالت في لهجة متأثرة:‏


- هات،
خبرني عن مغامراتك التي شحنت بها الأرض، ركعت النسوة بين رجليك هائمات،
الليل طويل جداً، والنوم في هالمغارة، مابييجي إلا عند وجه الصبح. سدون
التين الخضيري، ياحسرتي عليه، خربو الوكف، مضيت طوال الصيف، وأنا أجمع
الكعيبات وأسطحها حتى تجف، ضاع تعبي، عنبر الطحين المسنبل من أراضي آل
مبارك، راح مع سيال المطر، هيك نحن الفقراء بتهبط بيوتنا الطينية، وبيت
مبارك بينعموا بالراحة والتخمة، قول لي من وزع الأرزاق حتى جعلنا نحن
المعترين صايمين كل الدهر عن كل ملذات الحياة، ماعدا الشهوة الجنسية،
نتساوى فيها مع الكلاب والحيوانات.‏


تهدج صوت
هلوك الغاوية، وبانت على ملامحها ارتسامات حزن دفين وقهر تاريخي، لم
يعهدهما أيوب السارح على وجهها، وأومضت في عينيها السوداوين بوارق دموع لم
تنسكب، وسمَّرت ناظريها في غيلان الجعفي وسافرت في خاطرها بعيداً، تذكرت
صباها الأول، جدائل شعرها الطويل المزينة بشريط أصفر من القز، فستانها
الطويل المزركش، خصرها الأهيف الذي يحيطه زنار وردي، منتيانها القصير فوق
صدرها، حيث يبرز نهداها المكوزان في بداية تفتحهما، الحريق الجنسي يتغلغل
إلى جسدها الأسمر الفائر كحيوانات برية في ذروة تلاقحها، ترامت إليها الصور
كأنها تحدث في الساعة الحاضرة."ضرغام" شاب مراهق من أترابها اختلى بها
وراء الصخرة المختبئة في قلب الغابة، كانا يرعيان معاً قطيع الماعز، دهمهما
وابل المطر، أصدت الغابة بالرطوبة، والنغمات الربيعية الحلوة، اعتصما إلى
ظل الصخرة خوفاً من البلل، تسرب إليهما دفء مسحور، أحسا بارتعاشات غريبة،
وشوق ملح إلى إطفاء حريق المراهقة، انسجما في إيقاع مجنون، جثما عاريين مثل
آدم وحواء في بدء الخليقة الأولى، تداخلا مثل حيوانين فتيين، أسكرتها
الفطرية الضاجة في عروقها، همد الاحساس بالزمن، انسحقت بكارتها، اعتصر
نهداها مثل عنقود العنب، لم تدرِ لماذا حفرت هذه التجربة أعمق الأثر في
ذاكرتها؟! الأنها الأولى في بداية مراهقتها أم لأن صاحبها ضرغام المسكين
الذي امتلكها وكسر عينها بقواه الجنسية، قد لبطه حصان سيده الآغا وأودى
بقواه وأفقده رجولته التي كان يتباهى بها على بنات القرية، وهرب لا يلوي
على شيء تاركاً خلفه مرابع طفولته وذكرياته، محت الأيام كل مرتسماته في
لوحة الحياة، ومات منسياً في مفاوز هذا العالم الفسيح، أغمضت هلوك الغاوية
عينيها لحظة، وقابلت صورتي الشابين، ضرغام في المد الأول، وغيلان الجعفي في
المد الثاني، ولم تفهم لماذا ينتصبان أمامها في انسجام واحد؛ وكانت كلما
أوغلت في تقري ملامح غيلان الجعفي، اشرأبت صورة مالكها الأول بعريها
الكامل، وتشهَّت نفسها أن تعيد الكرة مع شاب آخر، اشتدت الريح عواء في
العالم الخارجي، غمغمات مخنوقة تأتي من الشقوق، نواح ليلي بعيد تصدى به
الأودية والجوبات الغائرة، روح الصقيع تسربت إلى زوايا المغارة، ولم تقدر
مواقد النار المشتعلة أن توقف زحف هذه الروح الكانونية. راح الجميع يطعمون
النار الحطوبات الجافة التي جمعوها مكادس من الحطب، حتى تقيهم غوائل البرد
الشديد، بحر من العتمة يموج في الخارج، تنعكس عليه أضواء النيران المنبعثة
من المغارة، فتشكل فراغات من القرون الغابرة، ومخالب أبالسة وذيولها
الطويلة، من رواسب اللاشعور انطلقت جنيات بألوان متباينة، كل يراها حسب
مخزونه من التخيلات والأوهام، كائنات غريبة نصفها الأعلى بشكل رأس إنسان،
والنصف الأسفل بجسم نمر مفترس، ارتفع صوت ابراهيم الجعفي ينادي أحمد التقي
بأن يأتي ليتسامر معهم في حلقتهم، الرعب القديم من غضب الطبيعة لف الجميع،
جعلهم ينسون حزازاتهم وخلافاتهم السابقة، المنافع كلها تذوب والعداوات
تختفي كأنهم يُبحرون في سفينة تشرف على الغرق، وتحوطها أمواج عاتية كالجبال
الرواسي تنذرهم بالموت، الرعد يجلجل في عمق المغارة، يحدث رجات في أرضيتها
وسقفها كأنها نداءات الهاوية. انفتحت البوابات الخفية، وانقذفت رواسب من
طقوس عتيقة، وعادت فيها عبادة قوى الطبيعة إلى سابق عهدها، متخطية أبعاد
القرون الموغلة في القدم، حاول أيوب السارح أن يبدد من ضرواة هذا الاحساس
الزاحف من مدافن الماضي، وممارسات الإنسان الأول، وعباداته للمغاليق التي
لا يقدر أن يسيطر عليها، فتناول بطحة العرق المختبئة بين طيات ثيابه وارتشف
منها رشفات متلاحقة وهمس قائلاً:‏


- ياه،
ياه! كم أتمنى أن تعيدوا لنا شريحة من تاريخنا المأساوي فنكء الجروح يغبطني
أثناء محاصرة الطبيعة لنا، ويرميني في جب المأساة، فالعزف الحزين بعد أن
طُبَّقت الصيرة الطينية على قطيعي، هو المناخ المناسب لمزاجي اليوم.‏


حك الشيخ
أحمد التقي أرنبة أنفه، سافرت عيناه في العتمة الراسبة عبر زوايا المغارة،
واندلقت لوحات درامية من خرائب الماضي البعيد، سكن فيها العجز والكبت
وأحلام اليقظة المريضة، والانبعاج الروحي السقيم، تنحنح الشيخ الملطوم
بالماضي ليجتر الأحداث، ويزيد عليها من نسج خياله كل مرة، رقعة كبيرة،
ومشهداً مثيراً، يتوقد البكاء والتحسر، وقال في تألم مسحوق:‏


- كان
ياماكان في سالف الأيام ملة معترة، تسكن الديرة الشرقية، عربية الأصل
والانتماء، تمتد جذورها إلى بقايا الحمدانيين الذين دافعوا عن شرف الأمة
العربية في تلك العهود القديمة، وضج التاريخ بمآثرهم القتالية ضد الروم،
ومازالت الكتب الماضية تنطق ببطولاتهم مع سيف الدولة الحمداني حتى صدق بهم
المثل (الصخر سقيناه دماً) وجاءهم الجراد العثماني، لا يبقي ولا يذر، وحصد
السلاطين الأتراك بخوازيقهم وهمجيتهم بقايا فروعهم، وتراكمت تلول من الرؤوس
المقطوعة، وهرب أسلافنا أمام الجراد الأصفر يختبئون نهاراً ويسيرون ليلاً
في المتاهات. سكنوا الكهوف والغابات عهوداً مجنونة، كادوا يهلكون في مخاضات
نهر العاصي والتواءات جبل الشعرا، وتناثرت عن أجدادنا خوارق التكيف مع
أقصى البيئات، قاوموا العري والحفا، والجوع، حتى صارت أجسامهم رماحاً
مسنونة، لا تعبأ بالفواجع، المطارق المتلاحقة صقلتهم، رغم كل المحن
والمخاوف، رسّخوا أقدامهم في شعاب هذه الجبال وأغوار الأودية، وفي الأماكن
التي يصعب الوصول إليها، وغويران الوطا جزء من هذه المأساة التاريخية التي
مازلنا نعيشها.‏


ساد صمت
وراء هذه الكلمات التي ساقها الشيخ أحمد التقي، جالت دموع ملتهبة في
العيون، أحس غيلان الجعفي بمخيلته الفتية بأن خفافيش ليلية من أوجار القرون
تلطمه بعماء التعصب، وترتسم أشباحها السود على شاشة التاريخ كغولة في
الحكايات العتيقة، تقتل البراءة، وتخيف الأطفال، وانبرى والده ابراهيم
الجعفي، يغرق في تأملات ملطومة بالحزن، وتتسلقه خواطر كئيبة من الماضي،
أجداده الذين قتلهم الجراد الأصفر، دمهم المهدور مازال ماثلاً في جذور
الريحانة، تمتص بقايا عظامهم ورميم أجسادهم، نفث من سيجارته نفثات طويلة،
خرجت من أنفه، وتأوه قائلاً:‏


لا تذكروني
بالماضي، و تصلبوني على رمال القفر الهمجي، نزيف بلون الجمر المحترق ينزُّ
من جروحي، الثلاثة من أجدادي قتلوا في هذا القفر، اخترق الرصاص قلوبهم
وأحرقوا في "ديْسَة" السفح، صارت جثثهم رماداً، وزرعنا ريحانة على بقاياهم.
وشبت الريحانة، وامتلأت الأودية برائحتها الطيبة، وخضرتها المغرقة، هناك
الناس يتبركون بها، يقطعون أغصانها الغضة، ليغسلوا بأوراقها موتاهم،
ويزرعوا قسماً منها على قبور أحبائهم لعلها تورق، ولم يكتف الجراد الأصفر
بما نكبنا به في سالفات أيامنا، بل شنق الأحرار والمناضلين العرب في بدايه
هذا العصر يوم السادس من أيار، وعلقت أراجيح الأبطال، وشنفت أسماع التاريخ
أناشيدهم قبيل الموت، ومازالت ظلالهم محفورة في الذاكرة العربية.‏


تهدج صوته،
تدحرجت دمعتان من عينيه فوق لحيته التي تسرب إليها الشيب، أخرج أيوب
السارح قنينة العرق من سترته الداخلية، فتح سدتها الفلينية بفمه، ارتشف
رشفات مسموعة، كفنت محياه كآبة حائرة وجال بعينيه في سقف المغارة التي
تترشح منها قطرات من الوكف، وتلتمع تحت ضوء النار اللاهبة، وأردف كمن ينادي
في غيابة الجب:‏


- لا أفهم
ماالذي حلَّ بنا نحن العرب، لا نكاد نخرج من نير إلا ويتلقانا نير آخر في
رقابنا. كوابيس سلاطين عثمان، جعلتنا مسوخاً، نتردى في مستنقع الجهل والعجز
والظلام، وكوابيس الاستعمار الغربي، زحفت إلينا بكل آليتها، وخنقت كل صوت
للحرية ومزَّقتنا عشائر وطوائف، وداست سنابك فرنسا على مآثر تاريخنا. إن من
يطلع على مسلسل نكباتنا، يشعر بأن لعنة نزلت بنا. انظروا إلى هذه "الجورة"
في كتفي، وهذه الندبة في ظهري، إنهما من آثار تلك المعارك التي لا تنتهي،
شفَّ لحمي، واشتويت على تنور التجارب، ولكن مازالت إرادة القتال وحب
المغامرة، يتمشيان في عروقي، فأحلم بلعلعة الرصاص وطبول الحرب.‏


قهقهت هلوك
الغاوية، قهقهات عريضة، وظهرت أقاصي أسنانها التي تحافظ على بياضها بفركها
بأوراق الشجر التي تمنحها نصاعة كما تدعي، وحكت عجيزتها، وتنحنحت ساخرة:‏


- راحت
قوتك، يا أيوب السارح، بين مناطحة النسوان بمنقارك، وبين مناجزة الفرسان
برصاصك، أكلتك الفلوات، وتضخيم الحكايات، وفي كل عرس لك قرص.‏


وأغرق الجميع في ضحكات عالية، تلتها سكينة مطبقة، شقها الشيخ أحمد التقي بقوله:‏

- في بحر
هذا الأسبوع، يصادف عيد رأس السنة الشرقية، هل نسيتم هذا الطقس اللحمي،
عندما كنا نسمن الخرفان والعجول لنذبحها ونشعل النيران ونقيم الفرح
والدبكة، ويتصالح الأعداء، ونتبارك بمزار الشيخ اسماعيل ونعيِّد رشيد بك
مبارك ونقدم له الأكباش، هل نسيتم ماعليكم من الواجبات، أم محنة هذه االسنة
ضربت عليكم العماء، وقد نسيتم حتى الحليب الأمومي الذي رضعتموه.‏


أغلق كل
منهم بوابته الخارجية، وسافر في دنيا الذكريات، واكتسحت هلوك الغاوية ذكرى
مومضة قفزت من رعوش السنين، يوم عيِّدت رشيد بك مبارك منذ عشرين عاماً،
وكان دبيب الصحة والعافية ينفر في عروقها، وينبض في قلبها سيل كاسح إلى
الرجال الأغراب، إنها تحب الغرابة، وتملُّ الرؤية الواحدة والتشنجات
الجنسية الرتيبة، كانت وقتئذ ترتدي فستانها البرتقالي المثير، وتحيط خصرها
الأهيف بزنار أحمر، وترخي جدائلها الثلاث بشكل ذيل حصان، وتفرك وجهها
بالصابون المطيب الذي أهداه لها رشيد بك مع زجاجة من العطر، لأنه يريدها
قبل أن يضاجعها أن تكون ذات رائحة طيبة، تثير القابلية. تمثلته وهو يتخبط
بين رجليها، ويتأوه من متعته الراعشة، ولكن الصورة التي انطبعت في ذاكرتها
أكثر، هي صورة الضابط الفرنسي الأشقر الشعر ذي العينين الزرقاوين مثل أعماق
المحيط، طلب الاختلاء من رشيد بك مبارك فقدمها إليه، أصابها الارتباك، لم
تكن تعرف لغته ولا طريقة الأجانب في الملامسة، قادها إلى العلية المنفردة،
شعرت بيديه الناعمتين تمسح مواطن الإثارة فيها، واشتعلت نار الوجاق، كانت
النوافذ ذات المقابض البرونزية مغلقة، عيد الميلاد تشرق فيه شمس شتوية
عجيبة في هذا الفصل. مطلات ثلجية تبرق وراء العلية، إنها المرة ألأولى التي
تدخلها، لأن رشيد بك إذا اشتهاها كان يتواعد معها في الفصول الدافئة،
باللقاء بها وراء الغابة وبين سرحات الجوبات المعشوشبة، ولذته تتضاعف حينما
يؤرجحها بين الحشائش، وحواسه مفتوحة للريح، والشمس وخرير المياه،
ولاستحمام الطيور في المنابع البعيدة، وقتئذ كان يفلي برازخ جسدها ونعومة
رملتها الفطرية، وقلما كان يشتهيها في الشتاء والفصول الباردة، إذ كان يفضل
إمضاء الشتوية في بيته المدني، ابتسمت هلوك الغاوية من تصوراتها واسترجاع
ذكرياتها، ومدت يدها إلى بطحة العرق التي برزت عنقها من سترّة أيوب السارح
وكبّت في جوفها سكبات منها، وغاصت من جديد في طيات الماضي. الضابط الفرنسي
الأشقر أمرها أن تتعرى كما ولدتها أمها. لم تفهم ماعناه بكلماته الأجنبية،
هاجمها في عنف، مزَّق "منتيانها" الأحمر عرّاها في عز الشتاء، أجلسها على
أريكة وثيرة. نار الوجاق تلقي ظلالها الدافئة على المكان، لم يقترب منها في
البداية، بل جلس قبالتها، وغدا يشرب الكأس ويشير إليها، وينقر على حلمتي
نهديها النافرين، نقرات موقعة، ويغمس فمه في دائرتهما محاولاً أن يمتصهما،
كأنه طفل يلوب ظمأ إلى ثدي أمه، أجج فيها مالم يؤججه غيره، لم يحاول أن
يضاجعها، بل اكتفى بالتفرج على عري جزيرتها، أشارت إليه أن ينغمس في رملة
جزيرتها اللاهبة، ولكنه رفض في نفور، وأبقاها ساعة على هذه الحال، تحترق
بنزوها الداخلي، وأخيراً أجبرها على أن تنبطح على صدرها وراح يمرر بكفيه
الناعمتين على عجيزتها، حاول أن يمتطيها من الخلف، لم تتعود على هذا النمط
من قبل، فامتنعت، ولبست ثيابها، وخرجت لا تلوي على شيء. استفاقت من سرحات
التذكر، وأدارت عينيها، صوب أيوب السارح وهمست في أذنه ببعض العبارات،
فاستلقى على قفاه ضاحكاً، وتمادى في الضحكات حتى ظن الحاضرون أن مساً من
الجنون قد أصابه، ولم يدروا ما النجوى التي حدثت بينهما، غير أن أيوب
السارح قرصها من فخذيها في شدة وقال:‏


- يبدو أن
هؤلاء الأغراب يحبون التلوين في ركوبنا، التركي كما قرأت في بعض الكتب، كان
يمتطي ظهر العربي في الأستانة ويقول له: "امشِ يا أخانا في الدين"
والفرنسي يكتسح عاداتنا، ويريد أن يمتطينا بطريقة أخرى، يا حسرتي على أيام
زمان، يوم كنا سادة الدنيا، ومدوخي الأباطرة، أحقاً أننا من نسل أولئك
الذين رسموا وهج المروءات والفتوح؟ ونقشوا في ذاكرة التاريخ (المنية ولا
الدنية!) لقد فتحوا خزائن نفوسهم الأبية، ففتحوا العالم...‏


تهدج صوته، غصّ
بصور مأساوية، راح يجتر حسراته، لم يطق صبراً، استلقى على فراشه الذي نشف
عنه البلل، وغطى رأسه، تسرب النعاس إلى الجميع ماخلا بريبهان العجوز أم
سرحان الخليط التي كانت تئن من أوجاعها، وتزحم المغارة بتأوهاتها، وتتحشرج
أنفاسها في صدرها، كأنها صوت مخنوق في العراء في حين كان قرعوش حفيدها، ذو
الاندفاعات الجنسية المهووسة، يراقب شبح هلوك الغاوية وهي تخرج من باب
المغارة بحجة قضاء حاجة، واندفع وراءها خارجاً، وفي ظل صخرة مجوفة، تعربشت
عليها شجرة غار قديمة، انحشر الاثنان، وتداخلا، في بعضهما بعضاً، كأنمها
كلب وكلبة، منعقدان في ذروة شبقهما، راحا؛ يلهثان في متعة مجنونة، في الوقت
الذي كانت الجدة تلفظ أنفاسها الأخيرة ويسمع صوت خبطها في أرضية المغارة،
وقبل أن تودع هذا العالم الغريب، في مهزلة بشرية، يموت في نهايتها بعضهم،
ويندفع في وسطها بعضهم الآخر، ليقتنص حزمة من رعشات فطرية، يتعارك فيها
الموت والحياة، وتظل الغرائز سائدة، تسطع منها قابلية الحياة رغم كل ضروب
البؤس والجوع وضنك العيش، وتشمخ فيها إرادة الحياة، رغم كل فجائع هذا
العالم المشحون بالنقائض والمفارقات واعتصارات الطاحونة الوثنية.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://starlook.alafdal.net
 
خرائب الأزمنة الفصل 3
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خرائب الأزمنة الفصل 14
» خرائب الأزمنة الفصل 15
» خرائب الأزمنة الفصل 16
»  خرائب الأزمنة الفصل 1
» خرائب الأزمنة الفصل 18

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ستار لوك :: الروايات-
انتقل الى: