منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ستار لوك


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خرائب الأزمنة الفصل 4

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
BaSmA iBrIz

BaSmA iBrIz


انثى عدد المساهمات : 1387
تاريخ التسجيل : 04/03/2011
العمر : 25
الموقع : /https://starlook.alafdal.net

خرائب الأزمنة الفصل  4 Empty
مُساهمةموضوع: خرائب الأزمنة الفصل 4   خرائب الأزمنة الفصل  4 Emptyالخميس 23 يونيو 2011, 14:21

الفصل الرابع

عيد الرابع من نيسان الشرقي‏

هبت الطبيعة من مرقدها الشتوي واشتعلت أضواء الشمس مع الأنسام البيض، واستحالت ثلوج الشعرا أغنيات في السفوح، وحلقّت أسراب السنونو في فضاء لازوردي الرؤى منذ عودة الربيع، وتفتحت أزاهير البنفسح عن براعمها، وعبقت الغابات بعبير مسكر، وظهرت الدروب التي كانت مختبئة خلف ركام الثلوج، وراحت تومئ إلى سالكيها، أن يمشوا فوقها ليحتطبوا من الأحراج ماكسرته رياح الشتاء الماضي، الذي تميز بضرواة لياليه، وهول أمطاره وثلوجه، وسقوط سواميك بعض البيوت من تتابع الوكف وقصف الرعود، أزهرت شجيرات اللوز في بساتين آل مبارك وأرهفت القلوب، بغمغمات النماء في قلب الأشياء، وتوجه جميع سكان القرى المجاورة إلى مقام الخضر، ليحتفلوا كعادتهم في كل عام، بعيد الرابع من نيسان الشرقي، ذلك العيد النيروزي الذي تتوهج المخيلة عن حكاياته القديمة، وعن لقاء الأحبة بين مرابعه، وكان المقام يبعد سبعة كيلو مترات عن غويران الوطا صوب الجبل العالي المطل على آفاق شاسعة، وعلى الجبل فسحة تتسع لسباق الخيول، واحتضان آلاف من البشر، وبجانب المقام غابة من السنديان والصنوبر وأجمات من الريحان والبلان البري يتفيأ القادمون ظلالها، ويتفجر من نهاية فسحة المقام الجنوبية، نبع ماء دافق، يفيض بين الغابة، وينساب بشكل شلال صغير بين أحراش السفح وشعابه. كان سكان القرى، يرتدون الثياب الملونة، ويهيؤون الأطعمة اللذيذة لذلك اليوم المشهود، يقيمون مراسح الدبكة على صوت المزامير القصبية، وقرع الطبول الغجرية، يغنون ويسكرون، وتندلع مواويل الحب الموله، وولائم المواعيد والأحلام واللقاءات الخفية، توقدت خيالات غيلان الجعفي بعودة الرابع من نيسان، وتفتح شوقاً ضارياً إلى لقاء خضراء مبارك في هذا الموسم الملائم، وراح يحوك الأحلام، وينمنم الخيالات، وكان الصدع العميق الذي حفرته حادثة صلبه على الشجرة، قد تضاءلت هواته وخفتت انفعالات الأعماق. اقترب من أمه وطفا واحتضنها بشكل رحماني لم تعهده منه بعد الحادثة، وغمر يدي والده بقبلاته، وشدَّ جدائل أخته رباب الشقراء الصبية الناهضة التي كانت في السادسة عشرة من عمرها، يفهم المتقصي لملامح جمالها أن بذور الشيخ محمود مبارك الشرسة، تلوح من خلف سماتها، خضرة عينيها المغرقة في الصفاء، أهدابها الوطف تحاكي أهدابه، أنفه المقوس الدقيق، شفتاها الغليظتان المشوبتان بحمرة لاغسة، تنقلك إلى نمطية شفاه آل مبارك، ورغم ذلك التشابه لم يكن غيلان الجعفي، يرتاب بطهارة أمه وطفا، وترسب به شعور أن الاشتهاء أثناء الوحام، كما تتناقله النسوة، يفعل فعل السحر في الوليد الجديد، غير أن ولعه بأخته سحاب كان أشد عمقاً، ألعلها نسخة شبيهة به و بأبيها، أم لا ستشفاف ذكاء لماح في عينيها السوداوين اللتين تبرقان مثل بصبوص ليلي، تناهت دقات الطبل الرجوج من مقام الخضر، منذ بزوغ الشمس، وأصدت الأودية بتراجيع الربيع، وانثال القرويون في الدروب والشعاب، الشباب بقنابيزهم الحريرية المخططة، وعقالاتهم السود، وشملاتهم البيض الهفهافة التي تحركها أنسام ندية، الصبايا اللواتي ارتدين الفساتين النارية التي تحاكي قوس قزح بألوانه، وسراويلهن الحمر الطويلة، وزنانيرهن المزركشة التي تضم الخصور الهيف، حتى يظن الرائي أن بنات السويد وأوروبا الشمالية، تركن آثارهن مطبوعة فوق هذه الخصور منذ الحروب الصليبية، وكانت نمنمومات المناديل وخرزاتها تبرق في المدى الربيعي، وتعكس ورد الخدود، كأنها تكتب مقولة (احذروا الحب في الربيع فإنه جارف كالموت) ارتدت هلوك الغاوية فستانها القديم الذي كانت تختزنه في صندوقها الجوزي، لتلك الأيام المعهودة بالفرحات، وألبست بناتها الفساتين التي أهداها إليهن رشيد بك مبارك. كانت اشتهاء اكبرهن في الثامنة عشرة شديدة السمرة، ذات وجه مدور مثل لعب الأطفال، وفم صغير خاتمي تغطيه شفتان حمروان كعناب بري داني القطوف، وعينين شهلاوين بهما أهداب طويلة، وقامة فارعة مثل حورة يافعة تتمايل خلفها عجيزة أكثر بروزاً وغواية من مفاتنها الأخرى. أما نجلاء فكانت حنطاوية اللون، تزهو بجدائل شعرها الليلي، وضمور خصرها، متوسطة القامة، لا تنفرد إلا باتساع عينيها الفاحمتين كعيني أمها، وكانت لا تتجاوز السادسة عشرة في بداية تفتحها، أما لمياء فكانت صورة مصغرة عن رشيد بك الذي ناطح أمها كثيراً في الخلوات ، ذات عينين زيتونيتين، يشوبهما التماع أخضر، وقامة بادية أكثر من عمرها، وشفتين ممتلئتين يخالطهما لعس أسمر، تنقلك إلى سمرة خضراء مبارك حتى أن غيلان الجعفي كان يدقق في ملامح لمياء وتستهويه شفتاها المكتنزتان، وتحملانه إلى خضرائه الفاتنة، وكانت في الثانية عشرة تعد بمشروع صبية متناسقة الأعضاء. كانت أسراب القرى المجاورة، تنصبُّ في الطريق المرصوف بالحجارة المار بجانب مقام الخضر، اهدودرت سيارة رشيد مبارك السوداء ذات الماركة القديمة التي أهداها إليه المستشار الفرنسي لخدماته السرية وصداقته المتينة مع فرنسا، وراحت تقرقع فوق الطريق المرصوفة، التي أمر بشقها المستشار الصديق، حتى الطريق العام، بغية نقل الأخبار والسرعة في مداهمة الوطنيين الذين يرغبون في التحرر من ربقة الاستعمار الفرنسي، وتدعيم الانفصاليين الذين يحلمون ببقائه. غير أن دماء الضحايا التي أريقت على مذبح الحرية، طوال ربع قرن، أزهرت نجوماً حمراً ثلاثاً، يوم الجلاء الأغر، رغم كل ذلك، بقي آل مبارك يتمتعون بالسلطة والنفوذ في الحكم المسمى وطنياً. إذ انتقل رشيد مبارك في سرعة البهلوان، من خانة العملاء والضالعين مع فرنسا، إلى خانة الحزب الوطني الذي ترأس الحكم، وصادف أن كان يوم عيد الجلاء موافقاً لعيد الرابع من نيسان حسب التقويم الشرقي، كأن هذا اليوم الربيعي حمل في رحمه ولادتين معاً؛ ولادة الطبيعة في ذروة نمائها، وولادة فجر الحرية لشعب رفض الخنوع، وسلاسل العبودية، وكان كاسر رشيد مبارك، يسوق سيارة ذات رفارف عريضة، يتباهى بها، وبجانبه امرأته الباريسية التي التقطها كما تقول الروايات من أحد الملاهي الرخيصة، يوم كان طالباً، يدرس الحقوق في بعثة خارجية ولكنه أخفق في دراسته وعاد بهذه المرأة التي كانت ترتدي فستاناً شفيفاً وتترك شعرها الأحمر على كتفها النحيل، وتبدو إشراقة جسدها البض والتماع عينيها المغرقتين بالزرقة. وكان يجلس بجانب المرأة الأجنبية "ماريا" الأخ الأصغر زاهر مبارك الذي كان في مقتبل العمر، يتباهى بشبابه، لا يرى العالم إلا من وراء خد أنثوي، وبروز نهدين فائرين، ولم يكن يتورع عن اقتراف أي من المحرمات، وكان مأخوذاً ببياض جسد ماريا، والرغوة الصابونية الناعمة التي تبرق من جلدها، أما المقعد الخلفي فقد ضم من اليمين خضراء رشيد مبارك، التي كانت تلبس فستاناً بنفسجياً، يوحي بألوان الغروب، وتضع على رأسها منديلاً شفقياً منمنماً بخرزات متعددة الأشكال تبرق في الضحى، كأنها ومضات نار جبلية، في عتمة داجية، يليها في الوسط أخوها طاهر رشيد مبارك، الذي اتسم وجهه بالطيبة، والبعد عن بهارج الدنيا، لأن اهتمامه كان منصباً على الكتب، والاطلاع على التراث القديم، وفي الطرف الأيسر كان يجلس ابن عمه يوسف ابراهيم مبارك المغرور بقوته وجاذبيته، إذ كان مضرب المثل بقوة عضلاته، رأس كبير يكسوه شعر خرونبي كثيف، تبرز في تجويفه عينان كبيرتان شهلاوان وأنف طويل، تبرز من منخريه شعيرات كأدغال محروقة، وتندلق من حوافي فمه شفتان وحشيتان مشوبتان بسمرة محمرة، تنمان على شهوانية كاسحة. كانت السيارة تسير في بطء، وسط أسراب الجموع الريفية الذاهبة إلى مقام الخضر لتشارك بالفرحة، وتقضي سحابة نهارها في مسارح الدبكة والرقص والاستمتاع بلحظات من عمرها، تمسح فيها عباب الشقاء الطويل، وتتفيأ بظلال واحة، فترة قصيرة، بعد قطعها صحارى العمر البائس الذي يتنزى منه الفقر، والوكف والحزن المأساوي، وكان المعلم نبيل السواحلي يمشي مع مجموعة أيوب السارح وغيلان الجعفي، مأخوذاً بتلك التألقات الصباحية التي يرسمها أبناء الريف وبناته فوق صفحة الوجود، شاعراً بأن الطبيعة مهما قست، والظروف الاجتماعية مهما استشرت، فلن تميت في الأعماق كل ذلك النزوع الإنساني إلى الفرح والمتعة، فالانصهار في القطيع يؤجج شعوراً بالأمن إزاء الذئاب المترصدة والكوارث المحيقة المنذرة، ولوّح بيديه في الفراغ الحلو، قائلاً:‏

- كم هو رائع! أن يخرج معذّبو الأرض من قواقعهم المليئة بالهموم، وبيوتهم الطينية المسكونة بروائح الدوّاب والعتمة، إلى العالم ليتشرّبوا إشراقات متفائلة، تطرد الروح الثقيل من صفحة أيامهم الرتيبة، الأزاهير وحركة النماء والخضرة اليانعة انبثقت من رحم شتاء ضار، وترمد بطيء. بيوتكم في عز كوانين المثلجة أضحت غربالاً لا يقي الوكف، وجوعات بلون الحرمان، امتصت كل نضارتكم، خرجتم بكل ما في حوافز الحياة، لترقصوا اليوم أناشيد الربيع، في عرس الطبيعة، وبجلاء المستعمر عن الأرض، وولادة إنساننا الجديد مع صباح الحرية، الذي أطلع ثلاث نجوم حمر في رايتنا الوطنية.‏

تطلع أيوب السارح في الآفاق الزرق، وانسياب الضياء الشمسي من خلف جبال الشعرا، فتداعت له أطلال الماضي، ومآسيه المحرقة التي تضطرم خيبة في داخله، وهتف كمن يناجي في البراري القديمة.‏

- قاتلت كل ضروب الاضطهاد، حملت السلاح ضد الأتراك بعد السادس من أيار، هزتني الحماسة بعد شنق الأحرار، وأهدر دمي، لولا هذه الجبال المنيعات لتغربل جسدي بالرصاص، وحاصرنا الجراد الأصفر في أماكن عدة كنا نتخلص مثل الخلد الذي يحفر سراديبه في الأرض، وذهب استعمار قديم ليحل محله استعمار جديد، واشتعلت الثورة في هذه الجبال، ورميت نفسي في تنورها وما زالت آثار بشراغي والقدموس مطبوعة في ذاكرتي، وانجلى الاستعمار الفرنسي عن أرض الوطن، وبقي أعوانه، وظل رشيد مبارك يمتص جهودنا، ويترفه نسله على حساب شقائنا، لا أدري إن كنا نحن المعترين، قارطين بخور الزيارات وواقعين في الخطيئة.‏

زمرت سيارة آل مبارك تزميرات مجفلّة، دوّى صداها في السفوح وفي آذان العابرين الذاهبين إلى مقام الاحتفال. كان كاسر مبارك يجري هذه الألاعيب، لينبه المارين على الدرب، إلى أنه يركب سيارة وهم يمشون وأنه من طبقة في الأعلى، وطبقتهم في الأسفل، وأن دالة أسرته على الحكم، مافتئت قائمة، وإن رحل المستعمر. كانت السيارة تزحم الجموع، وترغمهم على الانحصار في زوايا الطريق، وإرغامهم على الخروج أحياناً منها، واللجوء إلى الصخور المدببة، وأجمات الشربين والبلان، تسمرت نظرات غيلان الجعفي بملامح خضراء مبارك، بشعرها الذي يتراقص على كتفها، حينما تهب نسيمات الجبال وتحركه سرعة السيارة، ارتعد حنقاً، تنزت كل شرايينه بؤساً، حين تلامح إصبع، يوسف إبراهيم مبارك، تنغرز في خصلات شعرها المتطاير، أحس أن وجه العالم يستحيل بثوراً كامدة، والربيع الذي كان تفتحاً في الأعماق، ينزو برائحة عدمية، أحلامه التي كان يحوكها في مخيلته عن روعة الاحتفال، غدت تتأقزم عن كوابيس من الغيرة القاتلة، الروابي المزهرة، والغابات العبقة بأريج أخضر، والريف الضحيان بامتدادات الشمس، ونشيج الشبابات الرعوية بين المنعطفات، كلها ارتسمت صوراً راحلة، أغلق بوابته على طوف من المشاعر المبهمة، لم يفهم كنهها ولا ينبوعها الغوري، حاول أن يحاصر هذا الطوف، بتطلعاته إلى أرداف اشتهاء ابنة هلوك الغاوية التي كانت تصعد مع بناتها تلة منعرجة، تختصر الطريق، ارتد إلى داخله، راح ينغل مثل حيوان ضرير في سراديب نفسه هامساً: (ما الفرق بين تكوز "اشتهاء" وبرازخها، وبين مفاتن خضراء، اللحم البشري واحد، الدم الذي يجري في العروق كله أحمر، هل يمكن أن يكون دم الطبقات العليا دماً من نوعية خاصة، صبغياته زرقاء؟ الزغب الشعري المتصاعد من ينبوع جسديهما، وانحناءات الإبطين، والفخذين، هل هو واحد، ربما كانت شفتا خضراء أحلى مقبلاً. لقد لثمهما مرة في عمره، يوم اختلى بها قبل صلبه وتمرغ بلعسهما الشهدي البارد، لم يزل طعمه في خلايا ذاكرته، لم تنل كل أحزان العالم، وضربات قضيب الرمان الموجعة، من باكورية تلك القبلة الأولى، التفت يسرة ويمنة، حتى يتأكد أن أحداً لم يسمع تساؤلاته، وسافر في تلك المطلات المعشوشبة، والتهم نصاعة أزهار العرموط البري في الشعاب، وأغرق نظراته في تكوز نهدي اشتهاء، وبروزهما من خلال منتيانها، الضيق، لعله يبعد تلك الحرقات الداخلية، لكن عبثاً، ارتطم بتلك الربوات الخضر، وتخبط في شراك نصبته خضراء مبارك له، راح يهتز كنبتة "سلبين" أيبستها حرارة آب اللهاب. لاحظ أيوب السارح المرتسمات المجبولة بالقلق الحزين الذي ينحفر في وجه غيلان الجعفي وهو يراقب بنات هلوك الفائرات مثل أمهن وتعجب من هذه المفارقة، الغريبة في سلوكه، والعالم يضج بفرحتي الطبيعة والإنسان، وتنحى به صوب صخرة دهرية، تعربش عليها النعناع البري وأردف قائلاً:‏

- لماذا هذه المرتسمات الشديدة الحزن والقلق، تنبثق من وجهك في هذا الزمن الربيعي، التهم مفاتن بنات هلوك حاول أن تكنس ضباب الحزن، برؤية اشتهاء وردفيها اللذين تلطم بهما ديباجاً بديباج، حسب قول الشاعر، ونجلاء ذات الخصر الأهيف، كأنها بقية من لقاح بنات السويد في رحم شرقنا منذ الحروب الصليبية، ولمياء السوسنة التي لم تتفتح كل براعمها، لماذا كل هذا الرعب الحزين في نظراتك؟ لماكنت مثلك في سنك، كانت تسكنني تنانير من اللهفة، والأحلام، كنت أقتبسها من الرنوات ورعشاتها الواعدة، ومن الشفاه وتلويحات الوعد بالتقبيل، ومن استدارة أرداف تعج بجنون الغرائز، ومن رائحة أنثوية، مازالت، تدفعني رغم كهولتي إلىـ التحليق، وقطع السبعة بحور من أجل ضمة تحملك إلى رفيف الجنة الموهومة.‏

بان حنو غريب فوق وجه أيوب السارح وقطف باقة صغيرة من نعناع بري وغمر خياشيمه بها، وسطع مذاق غريب في رئتيه، فأعطاها لغيلان الجعفي ليعُب من نسغها، ويوصد صدوعه الحزينة، ولكن ماحدث كان عكس ذلك، تداعت صور اللقاء في مخيلته؛ الغابة الخريفية تئن بمعزوفة الرحيل بنبع الصنوبر الغافي بين الجوبات، يوسوس تحت عرائش الديس الوحشية، أنغام خفية تتصاعد من رعوش الأرض وهوّاتها، طيوف أرواح غير مرئية، خفيفة ترف في العمق القديم، شبابته المعهودة تشنف أذن الصباح الضبابي ببحاتها الشفيفة، التي تنقلك إلى خرائب المدائن المنسية، قطيع الماعز، يضيع بين الجوبات، وتُسْمعُ قضماته للأوراق، لم يَدْرِ كيف حضرت خضراء ألعلها روح الخريف أججت فيها التوقان المفجع إلى اكتناه الطبيعة في عريها، أم ترصدته من علية والدها في غويران المزار حينما قاد قطيعه في نهار جمعة، لأن راعي القرية كان مريضاً، واضطر الأهالي إلى توزيع أيام الرعي وكتب عليه المقدر أن يرعى في ذلك اليوم. كان حضور خضراء مبارك كاسحاً في فستانها البنفسجي، ومنديلها الحريري المطرز، عيناها الخضروان سكبتا على خرائب الخريف معنى متألقاً، شفتّاها الممتلئتان أنضجتا العناب البري قبل أوانه، شعرها الليلي رسم دوائر حلوة في الغابة العارية، تأوهت الطبيعة عن نفثات الحنين، إلى اقتناص شيء، في القلب الإنساني، كاد غيلان الجعفي يحلق في آفاق منيعة، ينوس فيها قنديل الحلم، وصلابة الواقع، اختليا في مغارة لنبع الصنوبر، تحت عريشة برية كانت استجابتها رحمانية، بثها كل أشواقه، أنطق الشبابة القصبية كل رعشاته، احتضن كفيها الحمامتين، قالت له: الحب الكبير يقاس بمقدار مايضحى من أجله.‏

لم يفهم سر هذا التناغم المباغت، كانت نظراته تلتقي مع نظراتها، أثناء دخول الصف.. وأثناء الانصراف، وكان حبه يترعرع من جانب واحد كما كان يظن. غير أن هذه اللقيا كشفت له عن أن المرأة مازالت لغزاً مبهماً يصعب ادراكه، توّج هذا اللقيا بقبلة متفردة، اجتمع فيها اليأس والأمل، والواقع والمحال. أخرجته من أحلام اليقظة، يد نبيل السواحلي وهو يربت على كتفه ويهمس قائلاً في أذنه:‏

- ليس ببعيد موعد خروج الانكليز من فلسطين. سيصادف ذلك منتصف أيار القادم. هل سيوجه العرب قواهم لنصرة أبناء جلدتهم، أم يتقاعسون عن المهمة القومية، أفكر بالانتماء إلى المقاومة وخوض معركة الشرف، أليس من الذل التاريخي أن تستوطن حفنة من شذاذ الآفاق، بعثرتهم الدروب أرضاً انقطعوا عنها آلاف السنين، وأن يبثوا أساطيرهم الدينية في عقلية الغرب بأن فلسطين ملك تاريخي لهم، وأنها أرض الميعاد، كيف يحدث هذا ونحن مائة مليون عربي، أشعر بإحساس غريب أن خيانة تتكون، وأن ماحدث في دويلات الأندلس، سيتكرر في المشرق فالذاتية العربية المتضخمة التي لا تنصهر في بوتقة الوحدة، سر من أسرار فجائعنا المتلاحقة.‏

درج أيوب السارح سيجارة من علبته الصدئة الممهورة بنقوش أثرية، بلل طرفها بريقه، قضم أطرافها بأسنانه، أشعلها بقداحته الصوفانية ذات الفتيل الأصفر، وردَّ في سخرية بائنة:‏

- دعنا من هذه الكوابيس، في هذه الأوقات الخاصة، اليوم خمر وغداً أمر، سننظف الزنجار عن أيامنا، ونمحو الكوانين السود من ذاكرتنا، قرأت كثيراً من الكتب الصفر، ومارست الحياة بكل ضراوتها، وصلت إلى حدود اليمن أخذني الأتراك عنوة، ولم ينبت الشعر على وجهي، اقتادوني إلى الصحارى والفيافي رأيت السراب، ورمالاً بلون العطش، وتفسخ جلدي عني، وعايشت القردة، وامتصصت القات، وهربت مع ستة من جنود هذه المناطق، الكتب لا تمنحك إلا الصور الباهتة عن الحياة، فرعشة من الممارسة تساوي عندي قراءة عشرات من الكتب، انظر إلى تلك الأرداف المتموجة، والنهود ذات المناقير الحمر، والخدود المصقولة كمرايا لم تغبشها الأنفاس المسعورة، إنها اليوم أجدى من كل هذه الهموم والكوابيس، المستقبل كشاف، تمتع بالساعة التي أنت فيها.‏

أسرع بخطواته صوب هلوك الغاوية حتى حازاها، وأخذ مكاناً بينها وبين ابنتها اشتهاء، التي كانت على غير عادتها تنظر ساهمة في المدى، ترتسم في عينيها خاطرة مغامرة مشوبة بالقلق، تمسح بادراف هلوك وقال في لهجة متهكمة:‏

- ياه ياه! مازالت لدونة جسدك غضة، رغم كل الهموم والضيق، ورحيل الأزواج عنك، لم يتجعد جلدك الناعم، ورغم ما تخبط فوق برازخك من رجال، مازالت خلاياك متفتحة للملامسة والطعان...‏

قهقه قهقهات عريضة، أصدت لها التلة الصاعدة إلى المقام، فهمت هلوك الغاوية، كنه هذه القهقهات، واجتذبته خارج الطريق الضيق الذي لا يتسع لأكثر من اثنين، وعضته في أذنه، حتى كاد الدم يحتقن بها، وهمست في تحد:‏

- وحق ها المقام، لو اختليتُ بك وراء تلك الصخرة الكبيرة، لما تجرأت على رفع صوتك، اعترف يابن السارح بأن رجولتك همدت. وصرت كالتيس اللي يمعمع، ولا طاقة لك على الضراب، أما أنا فالشباب يسير في عروقي مثل جمرة نار، وصوت الشبابة والعتابا والميجانا، وفروقات على دلعونا، ولياليا، ومواويل العشق (بتهيجني) مثل القطط في شهر شباط. اشتهاء بنتي محيرتني اليوم، هي على غير الخميرة، رغم زينتها وتفتح جسدها، الله يستر، قلبي عما يحدثني بشي مابفهمو، وابني نادر الأعرج صار ينقد تصرفاتي، والأيام مثل مخلب ذئب يريد أن يفرم لحمي واحسرتي على أيام الجهل والغوى، ومناطحة الرجال.‏

سار الجميع إلى المقام. تناهت إليهم رجات الطبول، ونشيج الربابات، وبحات النايات، وضجيج الغجر، وقد حطوا خيمهم الممزقة بجانب الغابة، ليبيعوا غرابيلهم ومصنوعاتهم الجلدية، وأساورهم الملونة، ويلقون ودعاتهم التي تنبئك عما يضمر لك القدر من مخبآت. غصت ساحة المقام بالجموع القادمة، كأنها السواقي تغيب في الأنهار الكبيرة، وتنفرش على الضفاف، وظهرت قبته المطلية بحوّار جديد، كأنها عمامة شيخ مهيب، كان قطيع من العجائز يتبركون، بالعتبة، ويلثمونها بشفاههم المقشرة الحائلة اللون، ويتناولون الخلعة الخضراء من يد خادم المقام ويقبلون يده، ويغدقون ماتيسر من القروش المقدوحة زكاة على المقام. وكان بعضهم يقدم قرابين من الخرفان، يذبحها الشيخ الخادم وينال نصيبه الأوفر منها، الغبار من الطرف الشرقي، يتصاعد من حوافر الخيول المتسابقة، وجريد النخيل يهتز في الهواء، يوسف ابراهيم مبارك يعتلي صهوة جواده "غبيان" كأنه فارس في صحارى الجاهلية، ويتباهى بقوة جسده أمام خضراء ابنة عمه، وزاهر بن رشيد مبارك، يركب فرساً مثل حمامة محجلة قوائمها بالسواد، ويصطف بجانب ابن عمه، وعشرات المتسابقين على خط واحد ينتظرون بدء السباق، وجموع الناس اتخذت مرتسم صفين متقابلين متباعدين عن بعضهما، لتفسح المجال للمتسابقين أن يلعبوا الجريد كما يشاؤون. كان غيلان الجعفي والمعلم نبيل السواحلي وأيوب السارح وأهالي غويران الوطا يقفون على الصف الآخر الموازي، ليتفرجوا على السباق، كانت خضراء في فستانها البنفسجي الرائع التلوينات، تظهر وكأنها أميرة من أميرات العرب، وعلى وجهها سيماء الكبرياء والعزة، انطلقت الخيول مثل الريح، وزاد الغبار تطايراً، غيبَّ المشخصات وراءه، لم تبنْ منها إلا ظلال شبحية تلمع في الضحى. حاول غيلان الجعفي أن يشعر خضراء بوجوده، ولكنها تعامت عنه، تجاهلته، فتسرب إليه إحساس حنظلي، وهبط إلى داخله، وراح يلسع نفسه سائلاً ومجيباً: "لماذا يا إلهي خلقتني من عائلة شديدة الفقر والمسكنة؟! لماذا حكم عليَّ أن أحمل صليبي منذ ولادتي؟! قذفت في براري بؤسي خضراء مبارك ذات الغنى والنسب المتعالي، والفتنة الكاسحة. لماذا يَعْلُق قلبي بالمستحيل" وتنزت دموعه من عينيه، أحس بأن شخصاً مجنوناً يقهقه بالفراغ من خلفه، انجلى الغبار في عودة المتسابقين عن "عبيان" حصان يوسف ابراهيم مبارك، يشرُّ الخيول ويبزغ في المقدمة، وراكبُه يتلاعب بالجريدة كأنها رمح سمهري، وتتلقاه خضراء وتقدم له باقة حمراء من زنابق برية، وتمسك بعنان فرسه حتى ينزل عن السرج ويتمسح بشعرها الليلي المسترسل، صحارى من المرارة والخيبة، لا حدود لها، انتصبت أمامه، خنجر بدائي يطعن جسده. استحال العالم الخارجي ظلالاً باهتة، ألوان الفساتين، ورائحة الصبايا، ورجات الطبول وبحات المواويل، ونصاعة الربيع، كلها أشياء راحلة لا معنى لها، انتبذ مكاناً قصياً عن الضجة، هبط إلى نبع الحورة، في أسفل السفح، وانزوى في قلب رعش دهري، بكى في صمت مقرف، انسلت صور الماضي في مخيلته بكل دقائقها؛ مدرسة غويران المزار في أول نشوئها، رشيد مبارك مع صديقه الكولونيل الفرنسي، يقصان الشريط الحريري لتأسيس أول مدرسة في هذه المنطقة الجبلية، أهالي المنطقة اصطفوا على الطريق المفتوح جديداً المؤدي إلى ساحة المدرسة. كان في صحبة والده ابراهيم الجعفي يتفرج على هذا الاحتفال الرسمي، كم صفق الجميع لرشيد آغا مبارك، وهتفوا باسم الضابط الفرنسي صديقه، حيث أقيمت المراسح، ورجت الطبول، واهتزت غابة الشيخ اسماعيل بمواويل العتابا والميجانا وترنحات أبو الزلف، وفي ضوء قمرة تشرين الشفافة تلاقى بخضراء التي كانت طفلة آنئذٍ، شديدة الحركة، تنتقل من مرسح إلى آخر، وتراقب العالم بعينين تغمرهما دهشة بريئة لم يكنه سر تلك المشاعر التي عصفت به، وهو يترصد عينيها المرجيتين اللتين كان شعاع من البدر التشريني يخبُّ في أنسهما، ويتراقص فوق شعرها الليلي المسترخي على كتفها الناحل، بشكل جدائل ثلاث، لم يدر عمق تلك الرعشات التي جذبته إليها، رغم أنه لم يكن قد أدرك الحلم، كان يسمع بآل مبارك وتعاليهم وغناهم، ويرى محمود مبارك يزورهم، ويسهر ليلاً عندهم، ولاسيما في الليالي التي تسري فيها روح الصيف، وتغني الصبايا وجدهن وأشواقهن في عمق الكروم وتغمغم الطبيعة بأغنيات الجنادب وخرير المياه في الجوبات المنخفضة.‏

كان يرميه في جب الحيرة، السبب المبهم الذي يدفع بالشيخ محمود إلى تمضية السهرة في بيتهم الطيني الوضيع، وفوق مصطبتهم المسقوفة بأوراق القصب البري، وأغصان الصنوبر المقطوع من الغابة، ويزيده تساؤلاً، حينما يلمح أمه وطفا تتأمله في حزن، ويسمر ناظريه في ضاحي وجهها، وينغرز بهما في مؤخرتها المترجرجة، كأنه يريد أن يعريها بنظراته الساهمة، ويسترسل غيلان الجعفي، زوايا هذا الماضي، يقلِّب صفحاته. المدرسة تفتح، يلتقي مع خضراء في صف واحد. الحب يترعرع في صمت الرنوات، المعلم نقولا أول من علّم في المدرسة، كان طاعناً في السن، مذعناً لكل أوامر آل مبارك، ودمية في أيديهم، يأكل من فتات أطعمتهم، ومعازمهم، كان يجيد الفرنسية، ولكن معرفته بالعربية، ضعيفة، يتغنى بعظمة أمجاد فرنسا وتاريخها، ويمزج اللغتين في لكنة غريبة، يقال عنه: أنه تربى في مدارس الجزويت في لبنان، واختاره المستشار الفرنسي بطلب من آل مبارك، ووساطة الكولونيل الصديق. كان أكره ماعنده أن يتحدث عن مآثر العرب وتاريخهم، ويصفهم بأنهم برابرة وبدو غير قابلين للتحضر، وهذا مادفع غيلان الجعفي إلى المغالاة في حب التاريخ العربي، والإغراق في ترتيل القرآن وحفظ سوره، وإجادة اللغة العربية في قواعدها البسيطة، من خلال دراسة الشرتوني بأجزائه الأربعة، حتى أنه كان ينزل مع والده إلى قرية التلاَّت التي قبر بها أعمامه الثلاثة الذين قتلهم الأتراك في زمن همجي، ويمضي أياماً عند خاله الشيخ عمران الذي اشتهر بعلمه وزهده وتقواه، وكانت مكتبته تضم تراثاً تاريخياً خصباً، ومخطوطات دينية وفلسفية، وقد وجد فيه خاله، مواهب كامنة، وذاكرة لاقطة ومشروعاً إنسانياً يُبشر بعطاء واعد، بينما كان غيلان الجعفي غارقاً في ماضيه يستمطر منه الصور، ويُنزف منه التداعيات، إذ به يسمع حركة عند نبع الحورة وكركرة ضحكات أنثوية، فخرج من مكانه، فلمح اشتهاء ابنة هلوك تسترخي فوق صدر رجل غريب، يلبس الزي العسكري الرمادي وقد نفرت شعراته الغابية من خلال قميصه المفتوح، وبانت حيوانية في حركاته، وهدهداته لنهديها وتمرغه بجسدها وشفتيها، ومداعبته لها. فانتفضت على صوت الحركة، وأنهضت رأسها بسرعة وغطت ماعري من جسدها. التفتت خلفها كظبي أجفله صياد مباغت، حملقت مذعورة، ارتبكت في موقفها، تعرفت على غيلان الجعفي. أبعدت الرجل الغريب، ونطقت في مذلة:‏

- سأشرد مع هذا العسكري اللي عرفته من عيد الزهورية الماضية وتواعدنا على الزواج، والسكن بالمدينة، والله ضجرت من الحياة مع البراغيث والوكف والفقر. أمي لا تطاق.. آل مبارك أنهكونا بطلبات مقرفة والنيل من أجسادنا، لي عندك طلب أبوس يديك فيه، لا تخبر ماشفت، قبل غروب الشمس، سلامي إلى غويران الوطا، وجيران البؤس، وقول لأمي أن تسامحني.‏

نهضت من مكانها واتجهت غرباً لحق بها الرجل المزهو بصيده، غدا ظلهما يختفي وراء الروابي، ويهبط في السهول المفتوحة على زرقة البحر، أحس غيلان الجعفي بحسرة طافية على فراق جارته، وميل كاسح إليها لم يفهم له تعليلاً، لماذا يأسف على اشتهاء ولم يجد في حياته أي ميل نحوها، بل كان يمقت تلك السمرة الغامقة التي تمسح وجهها، وذلك الوجه المدَّور كلعب الأطفال الذي لا تعبير فيه.‏

عرَّج من جديد على المقام، كانت الظهيرة تشتعل، والعرق يتصبب من أجسام الراقصين، والقادمون إلى العيد من القرى البعيدة، انكفأوا إلى أفياء الغابة، فتش عن أختيه، فوجدهما تفيئان إلى جذع السنديانة العتيقة تتفرجان على قرد صغير مدرب، يقلد بحركاته المرأة الصبية، التي تعجن الطحين والمرأة العجوز بحركاتها الضعيفة، كان صاحبه يرقصه على صوت الدف ويشير إليه ليقوم بتلك التقليعات، وكان نبيل السواحلي وأيوب السارح مأخذوين بتلك الرشاقة القردية، وقد بهتا لما رأيّا غيلان الجعفي قادماً وعلى وجهه تساؤلات وأسى مبهمان. نهره أيوب السارح كعادته، وتصاعدت من فمه رائحة العرق، ترنح رأسه قليلاً، سحب قنينته المعهودة، فكَّ سدادتها الفلينية، ارتشف منها رشفات مسموعة، مسحها بكمه ومدها إليه قائلاً:‏

- هذا حليب السباع، ينشر قابلية صوفية إلى الامتداد والفرح، يزيل صدأ الهموم، يخترع تلاوين من الأحاسيس، لا شيء ينسيك رعب الواقع إلا دبيبه في عروقك، إذا لم ندمر بعض حواسنا لن نصل إلى الصحو المسحور..‏

افتر ثغره عن ابتسامة ساخرة، قبض على يد غيلان الجعفي، سحبه إلى جذع السنديانة، أسند ظهره عليها، وضع قنينة العرق أمامه وصرة من البذورات وخبزات فيها حلاوة نفيشه، كان أيوب السارح يمزمز بها، ويتعجب الناس بميله إلى هذا النوع من الطعام مع العرق الحليبي، سرعان ما افترش شملته، مهدَّ الأرض، نزع عقاله عن رأسه، التمع شعره الأشيب الذي تشوبه شعيرات سود كأنها بقية أحلام فضية ترتعش في غبشة الكهولة، عصفت بغيلان الجعفي قابلية قاتلة إلى تغييب ذاته، والتطويح بتلك الكوابيس الجاثمة على صدره، كأنها مخالب وحش أسطوري، أمسك بالقنينة وصبَّ نصفها في جوفه الظامئ إلى التخدير، غرغرت عيناه بدموع خانقة، تعجب المعلم نبيل السواحلي من هذا التصرف المهلوس، وهزه قائلاً:‏

هكذا يشرب الذين يريدون أن يغلقوا كل نوافذ حسهم بالعالم. ماعهدتك تتوخى أن تدمر حواسك. ماالذي أودى بك إلى هذه الهاوية، أمِن أجل امرأة من أسرة مبارك، يلفك الضياع، وتهرب حتى من أهلك، فهذا التصرف نقيض لدرب الرسالة التي نود أن نحققها.‏

أنْشَدَهَ أيوب السارح من كلمات المعلم في هذه الأوقات الخاصة، وألوى شفتيه انقباضاً، وأفرغ مافي القنينة بكرعة واحدة، ونهض بسرعة مجنونة صوب الدمجانة المملوءة عرقاً، وطلب من البائع أن يملأ له قنينته كانت الدمجانه مطروحة إلى جذع خرنوبة برية وارفة الظل جثم حولها لفيف من السكارى، تناهى إليه صوت أليف لديه، لم يميزه في البدء، حتى تقرى صاحبه الذي نهض مرحباً، واحتضنه في حرارة لقاء مباغت بعد فراق طويل، وهتف قائلاً:‏

- منذ زمن بعيد لم أشاهد حضرتك يا أيوب، هل نسيت أيام سفر برلك. عصابات "الشتا" والمجاعة الكبيرة، يوم كنا كالكلاب المسعورة، نفتش عن "القريصة والهبولة"، ونحاصر البيوت المنعزلة من الأغراب، وننقبها من سطوحها الطينية، وننزل من الوجاق بالحبال المتينة، أوف يازمان! تتذكر يوم حوصرنا في الحرشة وأمر الشاويش التركي بحرقها عندما أعيته الحيلة باصطيادنا؟ كيف شبت النار في الأشجار الصنوبرية، وشعرنا بأننا وقعنا في شراك الموت حرقاً، والله لولا المُغر العميق في قلب الأرض، وياللي سهل علينا الهرب، لكنَّا في عداد الموتى، ولطلع العث على قبورنا.‏

ارتعشت ذكريات الماضي من مراقدها، اهتزت بحيرة الأعماق الكامنة، شعر أيوب السارح بأن طوف الماضي يذهب به بعيداً، ومغاليق المخيلة تفتح مصاريعها عن زمان متخمر بالفجائع والممارسات الخاصة، فهفا قلبه إلى أعشاب ذلك الزمان العتيق؛ وَرَبَت على كتف صاحبه، "دوّاس الليالي" الذي كان نموذجاً حياً للمغامر البالغ الجرأة، لا يعتريه خوف من خلوات الليالي المعتمات، ولا ظلمة كوانين السود في الأحراج المقفرة والمقابر المنعزلة، ولهذا أطلق عليها دواس الليالي الذي كان يهاجم الضبع في وجره، ويقنص الأفاعي في أدغالها، وبقي سنين عدة مُطرَّداً، بعد أن أهدر الأتراك دمه، وأُعْفِي عنه بعد خروجهم من البلد، وعمل كشوباصي في مزارع الأغوات، يخيف من يتجرأ على النيل من أرزاقهم وأشجارهم، ورغم مظهره القاسي فقد كان يضم قلباً رحيماً بالفقراء والمستضعفين، ويساعد اليتامى والمعوزين، كفه سخية فلا يبخل بشيء، وكان أقصى متعه المنحرفة، أن يتنصب إلى تأوهات النساء وهو يضاجعهن، ويسكر برعشاتهن وانشدادهن إليه في جنون شبقهن، إذ كان يعيد تلك الصور ويفليها في غطبة، لم يقتنع أن يرتبط بواحدة منهن، لأنه كان يؤمن أن الإنجاب عملية تافهة، والحياة لا تستحق أن نجني على من بعدنا، ولما كبر في السن لجأ إلى العرق المسلس ذي اليانسون الوفير، والمستقطر من العنب الجيد، وصار يجمع الآخرين من الشباب ينادمهم ويحكي لهم عن مغامراته في اقتناص النساء، والطرائد والمخاطر. استغرق الصديقان في نبش الماضي، ونشر نشارته وجزئياته في لذة غامرة، وكانا كلما انتهيا إلى وصلة حزينة، شربا خلفها كرعة من القنينة، وشاركا غيلان الجعفي في سكرتهما الموحية، حتى نفذت السكرة إلى صميمه، ولم يكن معتاداً على هذا النمط، فأحس بأن الدنيا تدور وأن العالم الأصم الذي كان يحاصره بشخص خضراء قد أخذ يتنوع في تعذيبه، وتنبثق منه العينان المفترستان، وتستحيلان شبحاً مفزعاً، ومخلب قط بري، يتهيأ للانقضاض، لوّح بيديه في القفر النفسي كأنه يتوخى أن يبعد هذا الشبح، لاحظ أيوب السارح الرعب المبثوث في ملامحه، والانتحارات الصغيرة التي تطغى عليه، فهزه من كتفه وقال مؤنباً:‏

- أي لون من الرعب ألمحه في وجهك؟! أي غول تلبَّسك واستقر في محجري عينيك؟! ظننته ملك الموت ينقضَّ إلى حنجرتك لينتزع روحك من جسدك. عبَّ جوفك من هذا الترياق وأبعد هذا الغول عنك.‏

تقدم بالقنينة بعد أن خضَّهاَ، وزاد عليها من الألفية حتى تكون أشد فاعلية، وأعطاها لغيلان الجعفي الذي صبَّ قسماً منها في جوفه فاستراح قليلاً على جذع الخرنوبة وهمس في ضراعة:‏

- إنها هي التي تعرفها، زحفت بعينيها إليَّ من خرائب الخريف، تقمصت شبحاً يريد أن يلاشيني، ويضغط على صدري، إنه العالم الذي تجسد فيها بكل صنوف عذاباته، وغواياته، ماكنت أتخيل أنها قادرة برنوات حالمة تقدمها إلى مخيلتي، أن تسحقني، تصيرني نبتة "سلبين" يابسة يخشخش فيها فراغ الموت والجنون، نحن نجهل سحر الأشياء وفعاليتها مادامت حاضرة لدينا، وحينما نشعر بإمكان بعدها عنا، تقفز في غيابها وتصبح أكثر حضوراً.‏

استشاط أيوب السارح غضباً، اكتسحه عاصف من الأسى، بصق على الأرض، أومضت في عينيه بارقة حنان دفين. نهره بصوت مسموع، ونادى كأنه في العراء البعيد:‏

- أتسقط من أول هزة؟! مثلك مثل التينة المخوَّرة تقع عند أول رعشة من الشجرة، سوف تحتاج إلى كل مطارق التاريخ حتى تجعل جسدك رمحاً قوياً، مازالت حكاية أحد رفاقي محفورة في قحف رأسي. يوم هربنا من عسكر تركيا، وكنا في اليمن وقتئذ كنا نقاتل رغماً عنا، بلا معنى فتلقفتنا الصحارى، والقفار المترامية، وتشققت جلودنا من هول الظمأ والجوع، وفي أحد الكهوف في جبال السراة نقرت أفعى هائلة مرقطة، إصبع أحدنا، فوضعها على صخرة بازلتية، وشهر سكينه الياطقان، وانقض على إصبعه، فانفصلت عن كفه، والدم يتفجر من يده اليسرى، وربطها بكم قميصه الممزق، وعاد إلينا كأن شيئاً لم يحدث ونطق بكلمات مازلت أذكرها: الرجولة الحقة تجعل أجسادنا حراباً مسنونة، وتصير أيدينا نصول سيوف قاطعة...‏

كشر دوّاس الليالي تكشيرة صفراء، وانكشفت أسنانه المنخورة، وتطلع إلى صفحة البحر الغربي، فطالعته غيوم سود، راحت تنتشر في الفضاء، وشعر بحدسه الطويل ومعايشته لتقلبات الفصول، بأن هذه الغيوم الربيعية تحمل في طياتها أناشيد مطرية، تسكبها الطبيعة كل عام في عيد الرابع من نيسان أو بعده بأيام، كأنها تريد أن تشارك الإنسان في طقس الفرح، لوّح بيديه وانغرزت عيناه في الآفاق البحرية، وصرخ كمن يستوقد الذكريات الخالية.‏

- الطبيعة اللي عما تنذر بالمطر، حملتني إلى براري سفر برلك، جزمتي تمزق نعلها مابقي منها إلا الإطار الخارجي، لحمة قدمي تشققت، وماتت. صرت أدوس أشواك البرصين، والديس البري، دون إحساس بها، في إحدى المرات نزل علينا المطر بشدّة، ركضنا فوق أرض مليئة بالشوك والبلان فوجئت بأن قدمي اليمنى عما تعرقلني في المشي، فوقفت فإذا أفعى مغبرشة، علقت أنيابها في لحمة قدمي الميتة، فأسرعت بهرس رأسها بمشط قدمي، وكشطت أنيابها من اللحمة الميتة، بسكيني الحادة حتى لا يتسرب السم إلى العروق الحية. وكان معنا، في تلك الغارة "فراس الغوري" مضرب المثل بالشجاعة والجسارة اللي- غربله الرصاص، واحزني عليه، من عصابات الشتا المناوئين لنا، وبقي في هاالجفنة، حتى تفسخت جثته، ماقدرنا على دفنها وأكلتها النسور والضباع، من يومها وذكراه تهيج البكاء في عيني وترميني في جب الحزن.. والأسف على شاب في بداية تفتحه، انقصف ومات.‏

خبط برجله الأرض، بدت تشنجات مهلوسة، في ملامح وجهه، غطّى عينيه بيديه، راح ينشج باكياً، تعجب أيوب السارح مما أصاب ربيب صباه وهو يعرف أن كل أهوال الحياة ومصائبها لا تبكيه، وأمسكه من كتفه وحنا عليه في أخوة مقتولة بالرحمة وقال:‏

- أواه أواه! أتبكي يا دواس الليالي يا أبا الأهوال والرعب والجسارة، عرفتك فيما مضى، صلباً كعروق الشربين، قوياً كصخور الشعرا ورعوشها. ماذا حلَّ بك؟! عرفتك لا تهزم ولو تحطمت....‏

نهنه دوّاس الليالي من دموعه، ومسحها بكم قنبازه وأجاب:‏

- أوف أوف إنه الزمن، يأكل أحلامنا، واعتزازنا بقوتنا.‏

- واحسرتاه مات أكثر اللي عايشتهم، وطلع العشب على قبورهم، زنوبة ذات الردفين، والرعشات الجنسية الخاصة، استحال جسمها دودة في قلب الأرض، خزامى ذات القد الأهيف مثل حورة الينابيع والجدائل الشقراء كنت تقول عنها إنها بقية أميرات الشمال في جبالنا الشرقية، انسحق قدها، وأصيبت بالشلل من جرّاء وقوعها من رعش صخري، وهي الآن عجوز يبكيك منظرها وفراس الغوري سيد الجسارة وفارس الليل والغزوات، كان يحلم بجمع برطيل ابنة عمو من المغامرة والسطو، تغربل جسدو، وتفسخت جثتو، وانقبر حلمو، وكان قد خبرّني بأنو بدو يتوب، ويرجع إلى صوابو لأن البرطيل كاد يكتمل.‏

اعتصر إحساس دفلي كيان غيلان الجعفي، أن عمره في هذه الجلسة زاد عشرات السنين، وأن محنته ليست إلا هباء أمام محن الآخرين، فغشيه خجل كريه، وأمسك عوداً يابساً، وراح ينكأ التراب، ويتملى هياكل الأوراق التي تساقطت في الخريف الماضي، ويفتتها في عبثية ممجوجة، انتزع أيوب السارح قرصاً من الشنكليش المزعتر من جيبه، قسمه ثلاثة أجزاء، ناول جزئين منه إلى نديميه، تنشق رائحة الزعتر، في الصرة التي كان يضع فيها أرغفته التنورية، وتلمظ قليلاً:‏

- رائحة هذا الزعتر البري، أعادتني إلى مراهقتي الأولى. حواسي كانت مفتوحة على العالم، كنت كلما مررت برابيتين متباعدتين يفصل بينهما درب صغير غير مأهول، قفزت في ذاكرتي صورة أنثى منفرجة الساقين، صخور الرابيتين البيض كانت تستحيل في وهج شبقي إلى نهدين بطرين بارزين في هذه الأويقات الخاصة، تواعدت وإيّاها أن نتلاقى في مرجة الزعتر البري، كانت خادمة في تباشير عمرها، تعمل لدى أسرة إقطاعية، مقابل مئات من الليرات، يقبضها والدها الفلاح، كل عام ليطعم أبناءه الصغار الكثيرين، ولكن ابن سيدها الشاب، لعب عليها، افتضَّ بكارتها، طردها بعد اكتشاف أمرها، أسكت والدها مقابل خمس تنكات من القمح وبعض الدراهم. غير أنها تعلمت أشد الحركات إثارة للمتعة والانسجام، بين رائحة الزعتر تصاعدت رائحتنا الفطرية كحيوانين صغيرين تلاصقتا في ضمة واحدة. تلاشى الزمن، وفنيتُ سويعات في اكتشاف... الجسد وتحولاته وجنون المراهقة، ومازال ذلك الطعم عالقاً في ذاكرتي، كأنه حدث البارحة. باعها والدها إلى أحد تجار الرقيق واللحم الأبيض، وغابت في مسالك السنين، وصارت أميرة في بلاد النفط كلما أغرقت في سكراتي، واشتممت رائحة الزعتر، تصاعدت كنافورة بللورية في ذاكرتي مشحونة باللوعة، ارتجت بحيرة الأعماق، ارتطمت أمواجها في شطآن نفسه، شعر بأنه قشة صغيرة في مهب ريح الزمن، يد غولية تمسك بخناقه. غثيان أصفر بلون التحسر يتمشى في عروقه، فنهض من مكانه ماسكاً يد غيلان الجعفي، راح يدور على المراسح، ويتمسح بالنسوة؛ القدر راح يقهقه ساخراً منهما، طيف خضراء مبارك تمسك بيد يوسف مبارك وترقص معه، وجدائلها تترنح على وجهه وكتفه، وهي مأخوذة في حركاتها وقد تورد خدّاها ؛ وزهت شفتاها بلمعة إغراء ساحرة. أحس غيلان الجعفي بأنه وسط صحارى لا حدود لها، تنوشه ذئاب، تعوي من حوله، وتذرو الرمل في عروقه، الرمل الرمادي يزحف بشكل فزَّاعات، ويرتسم بصورة غريمه يوسف مبارك يقهقه من خلفه ضحكات الفوز والشماتة، مخيلته التي ألهبتها السكرة، فتقت صدوعاً لا نظير لها من الأغوار والعذابات، لا يدري ماذا يفعل؟ أيبكي وقد لاحظته عن كثب، أيمزق ثيابه؟ وهو لا يملك غيرها؟ أيطعن جسده بخنجر وهو لا يملكه الآن، فرَّ هارباً صوب مغارة السفح، وانطرح مغشياً واختفى العالم الخارجي، ماتت الضجة، تساقط المطر شديداً، استفاق على نداءات تناديه وهو بين نصف الوعي، عاد إليه صحوه، انزاح الضباب الذي كان يتمشى في تجاويفه، عرف أنه نداء معلمه نبيل السواحلي وأيوب السارح، فهرع إليهما وبصحبة أختيه، أقفل راجعاً إلى قريته يجرجر قدميه كمن فقد أبويه، كان عيد الرابع قد انفضَّ وتفرق الناس إلى ضياعهم ومساكنهم، حاملين معهم وقدات من المتع اللذيذة تقيهم غوائل زمن رتيبي، كان المساء ينشر غبشته، وروح المطر الربيعي ترف في الأجواء الجبلية، فيتسرب البلل إلى الأصبغة، ويمسح الحمرة عن الخدود والشفاه النسوية ويذيب الكحل في العيون، ويجري إلى الأثواب الداخلية التي ترتديها النسوة ويجعل طيات فساتينهن الخارجية ملاصقة لأجسادهن، ومظهرات تراكيب برازخهن، وبروز أردافهن، وكانت الجموع المنثورة على الدروب والمفارق وبين الأحراج، أشبه بقطيع من الماعز يرتعي فوق القمم، فاجأته عاصفة مطرية وكانت ولولات النسوة اللواتي فقدن أحذيتهن، وغطاء رؤوسهن، وسيلان مساحيقهن فوق وجوههن، تختلط مع همهمات الطبيعة الغامضة والرعود القاصفة، كأن القدر الذي يلطو وراء الأيام ضبع فلاة قد اقتنص طفلاً وادعاً، وهو يرتعي سحابة نهاره في فرحه الإنساني مع أترابه، واقتاده إلى الغابة المشحونة بالرعب، وراح يكركره في خاصرته، ويضحكه حتى الموت قبل أن يلتهمه في جوفه، ويقضقض عظامه في مأساة عريضة، ضمت المفارقات الأزلية بين الحياة والموت، والفرح والعذاب، والأمل واليأس، في ملحمة الصراع الطويل اللامتناهي، الذي عاشته الإنسانية منذ بدء الخليقة وحتى نهاية آخر الأزمنة.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://starlook.alafdal.net
 
خرائب الأزمنة الفصل 4
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خرائب الأزمنة الفصل 9
» خرائب الأزمنة الفصل 10
» خرائب الأزمنة الفصل 11
» خرائب الأزمنة الفصل 12
» خرائب الأزمنة الفصل 13

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ستار لوك :: الروايات-
انتقل الى: