منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ستار لوك


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خرائب الأزمنة الفصل 5

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
BaSmA iBrIz

BaSmA iBrIz


انثى عدد المساهمات : 1387
تاريخ التسجيل : 04/03/2011
العمر : 25
الموقع : /https://starlook.alafdal.net

خرائب الأزمنة الفصل  5 Empty
مُساهمةموضوع: خرائب الأزمنة الفصل 5   خرائب الأزمنة الفصل  5 Emptyالخميس 23 يونيو 2011, 14:21


الفصل الخامس

العرس المأساوي‏

دارت عجلة
الأيام لاهثة، بعيد عيد الرابع من نيسان. امتد نصل بلون المأساة إلى صميم
غيلان الجعفي، عضَّه أربعاء ذئبي بنواجذه، تناهى إليه عقب عودته إلى زيارة
خاله الشيخ عمران أن عرس خضراء مبارك سينعقد في تلك الليلة، العالم الخارجي
انقذف أغوالاً سوداً، الليل زهرة حالكة، يلطم شحوبها صفحة مخيلته
المتوقدة، تنز الصور الحزينة من دماغه، مثل خوصات زيت في مكبس الزيتون،
وينثال رماده في شرايينه، انشطار غريب مثل تصدعات الزلازل، تغلغل إلى
كيانه، شعر بأنه يهبط إلى تلك الدركات السفلى من اللاشعور كأنه أورفيوس
الأسطوري ينزل إلى العالم السفلي المظلم، غيرانٌ تفتح أشداقها، وتنقذف أمام
بصيرته، عيون مخثرة بالغدر، تحمل خناجر حادة، تلطو وراء صخور بدائية،
ندَّت عنه آهاتٌ، وغمغمات كلمات (آه.. آه... لا قرار لهذا الليل الخنزير،
لا نهاية للحزن الملطوم، أكاد أستحيل مسخاً، حلم الحب الأول مات في العراء،
خضراء صحوة الضوء، تتزوج رجلاً آخر) بدائي من أكلة لحوم البشر في القفر
القديم، ينقض عليه، يحمل رمحاً مسنوناً، صرخ كمن يغرق في الرمل المتحرك:
(أمي أمي... أكاد أجن) أمسكته أمه وطفا واحتضنته، لتمتص رعبه الكوني، وبثت
فيه دفقة حنان لعلها تخرجه من قمقمه المسكون بالخواء، وهمست قائلة:‏


- سنك
صغيرة يا بني، على شرب هالسم الممزوج بالحلاوة. نصحتك، لا تعلق قلبك بواحدة
من آل مبارك، والله هي أفعى بصورة امرأة سمَّها يسيل برفات عينيها
الخضراوين، حاول أن تنساها، ياقرة عيني فالزمن بلسم للجروح..‏


سمَّر
الوالد الشيخ ناظريه في ساموك البيت المجدور، التقطت عيناه صورة الحية
السوداء التي تختبئ، منذ سنين طويلة، خلف البلان والطيور والقصب البري،
وتمرح في السقف، وقد ألفتها العائلة، وكانت نظرتها الجامدة المشفقة على
حاله من وراء الساموك، تملأ ذاكرته بالتداعيات الوحشية التي سببها لهم آل
مبارك، الإذلال المعجون بالقهر، تسخيرهم في العمل بلا مقابل عبر حواكيرهم
التي تنجرف سنابلها كل عام، إرغامهم على تكبيس جيادهم الصعبة المراس، الكدح
المريع في الأراضي الجبلية، ملاحقتهم لنساء غويران الوطا أمام عيونهم،
وراء الصخور، وجفنات الغار الظليلة، حتى أنهم لم يتركوا امرأة مقبولة
الشكل، إلا وحاولوا اقتناصها، وإغوائها وتعريه ينبوعها، وأخيراً ينهالون
على أغلى مشروعات حياته، فيقوضونه ويرمونه في هاوية اللاوعي، ويتركون ابنه
الذي حاك حوله نسج الأماني البيض، مطروحاً أمامه تعتصره الوساوس وتأكله
أفعى مبارك أشد ضراوة وسماً من أفعى الساموك، اقترب من ابنه، وراح يقرأ
سورة (يس) وكل ماحفظه من التعاويذ ليخرج العفريت الذي عشش في عروقه، ويزيل
رعشات البرداء من جسده، ويمرر أصابعه الرحيمة بين خصلات شعر ولده، ويسكب
دموعه في صمت، ويمسك قرناً من الثوم الجبلي الحاد، ويُنَشِّقُ به أنف ابنه
المغشي عليه، وأخيراً استفاق غيلان الجعفي من العتمة، صعد من أغواره
المبهمة، والتفت يمنةً ويسرةً، رأى والده بجانبه، يحتضنه في قلق شرس، ويفرك
له جبهته، وأمه وطفا تكبس له رجليه وأختيه تحملقان به مأخوذتين بشحوبه
وتصدع نفسه، كانت اللوحة المأساوية التي رسمتها النار في الوجاق وتراقص
الأشباح على الحيطان الطينية، والسراج التنكي اللاهث، وصورة عائلته
المنكوبة الحانية على جرحه النفسي، واللباد الحائل المطروح في الزاوية،
وجمود عيني أفعى الساموك، والقصب والبلان المسودان من الدخان في السقف
الطيني، وطعم النار في قرمات الريحان وشبابته المعلقة في وتد الجدار ذات
الثقوب الثمانية، ورائحة الثوم الحادة، ومذاق غمغمات الليل وأصداء تراجيع
طبول بعيدة كلها إرهاصات صادمة لفتح دروب الوعي، وملامسة العالم الخارجي
والتقاط أبعاد المكان الذي غاب عنه زمناً غريباً، وأشار إلى أخته رباب
هامساً:‏


- لا
تخافي، اذهبي في هذا الليل المملوء بانتحاراتي، الصغيرة إلى غويران المزار
وقولي للمعلم نبيل السواحلي وأيوب السارح أن يأتيا إلي بالسرعة القصوى، إني
أحتاج إلى قشة أتمسك بها وأنا أتأرجح بين شقي هاوية سحيقة....‏


أطبق عينيه
من جديد، نهض الأب المنكوب، تلمس مع ابنته رباب الدرب المعتم، المتعرج صوب
غويران المزار، خشي على ابنته أن تذهب وحدها في غمرة هذا الليل المجنون
الذي أغرقه بأحاسيس الفجيعة، وترقب مصائب جديدة، لأن الزمن ومايحمله في
طياته من المفاجآت، علمه درساً بليغاً، أن المصائب تأتي مجموعة، وتنصب على
رؤوس المفجوعين. بنات نعش اللواتي شغف بسرحاتهن السماوية، منذ طفولته، ظهرن
أمام عينيه بنقاب إنسان شامت، والهلال الذي تسلق قمم الشعرا وهو في
المحاق، بدا جمجمة بدائية صفراء، لم يعد لذلك الليل الراكد وراء الأشياء أي
طعم، الدرب الذي قطعه آلاف المرات إلى مزار غويران، كاد يغيبه فيضيع بين
المطاوي والمنعرجات، ولولا ابنته التي مازالت تحتفظ بصفاء ذاكرتها، لظل
يتخبط في العتمة التي تزيدها الغابات والمرتفعات المحيطة بالسهل، دكانه
وقتامة. عرَّج على السفح، طالعته مسارح الدبكة، وراء غابة الشيخ اسماعيل
نيران مشتعلة تمسح الملامح. فانوس معلق في غصن السنديانة الضخمة يرسم صوراً
مشبوحة من بعيد، الطاولات المحشوة بالمأكولات والأطايب وزجاجات الخمر
والعرق المسلس من كروم العنب الجبلي، تصطف هناك أمام آل مبارك وضيوفهم
الغرباء عن الديرة، لم يُدعَ من غويران الوطا إلى الحفل إلا الشيخ أحمد
التقي والمعلم نبيل السواحلي وأيوب السارح، شعر ابراهيم الجعفي بحرج وضيق
لا نظير لهما في حياته، انتابه خجل مقرف أن يأتي في هزيع الليل بلا دعوة،
كان يتمنى أن تخسف به الأرض، لم يره المحتفلون لأنه كان آتياً من قلب
الظلمة، وهم في بؤرة الضوء، اختبأ خلف جذع شجرة البلوط الهرمة الراقدة على
عتبة المزار، انسلت ابنته صوب الضوء، خلف الطاولات والكراسي، راحت تفتش في
توجس عن نبيل السواحلي، وأيوب السارح، وجدتهما في آخر الصف الثاني بجانب
محمود مبارك يتمايلان من السكر، ألمَّت بها حيرة قاتلة كيف تبتدئ، ارتجفت
شفتاها، أفعمتها رائحة العرق المسلس وتطلعت وسط الحلقة، تلامحت عيناها
خضراء مبارك مكللة بلباس أبيض شديد الشفافية، كأنها شبح ضوئي يلتمع في
الوسط على كرسي عالٍ، وبجانبها عريسها يوسف مبارك يتبادلان النظرات
المهموسة، ويتشربان مواعيد آخر الليل، ليغتبطا بخلوة الزواج الذي أقسم رشيد
مبارك أن يدمجه مع الخطبة في ليلة واحدة. عصف برباب غثيان مقرف، سال حقد
أصفر في شرايينها، كادت أن تبكي أسى لما حل بأخيها العاثر الحظ، اقتربت من
نبيل السواحلي وأيوب السارح اللذين بوغتا بمجيئها في هذه الأوقات الغريبة،
وهمست في خفوت:‏


- غيلان أخي، يطلب النجدة، يكاد عقلو يطير، روحوعما تنازع وفاجعة كبيرة راح تحل بيتنا...‏

هرولت وراء
الصفوف الخلفية، اختفت في العتمة كأنها شبح مطرود غيبتَّها المسالك
النازلة إلى غويران الوطا مع والدها المسحوق، ثقبتهما من الداخل أحاسيس
مجهضة بأن لا جذور لهما في هذه القرية اللعينة وأن المستقبل هو راكد
كالحاضر، إذا لم يغيروا المكان، ويترحلوا جميعاً في أرض الله الواسعة،
وتولد تصميم في عائلة، الجعفي على أن تفتش عن مأوى أكثر دفئاً ورحمانية،
يقيها الرسوب في مهاوي المسوخية النفسية، ويبعدها عن كونها أرقاماً ميتة لا
معنى لوجودها، تعبر الحياة مثل وريقات ذابلة، تنحدر بها سيول جبل الشعرا،
لتقذفها في مطاوي النسيان، ورعوش الانحدارات قبل انصبابها في البحر
البعيد.‏


***‏

"الفجر
الشاحب" نقيق الضفادع المعدني، صياح الديكة، معمعة عنزات سرحان الخليط في
الصيرة، هدير الجداول المنسابة في سفوح الشعرا أشلاءُ أصوات غامضة تتعالى
من البرية المخيفة. كلها كانت في آذان عائلة الجعفي كقرع نواقيس جنائزية
تنبئ بكارثة تحل بهم، الشخوص المتراقصة ظلالها فوق جدران بيت الدفش الشبيهة
بحبلى منتفخة في الشهر السادس، والنار في الوجاق على غير عادتها في هذا
الفصل، تنتحب فيها الجمرات، وتلتمع بصاتها تحت الرماد.‏


المعلم
نبيل السواحلي وأيوب السارح يحنوان على غيلان الجعفي وينشران في مخيلته
الملتاثة التي تفور بالصور القاتمة، مسوغاً للتماسك والاستمرار وتقبل
الصدمة. كانت هلوك الغاوية أكثر القابعين في الزاوية قدرة على تحريك خيط
التفاؤل وانتزاع الضحكات والابتسامات ومسح الموقف بغلائل من النكات
اللاذعة، إذ ضربت على عجيزتها المترجرجة ومسدت مابين فخذيها وقالت:‏


- كم هم
مجانين نوع هالرجال! لو عرفوا الجورة واحدة، ولو تنوعت النسوان، ماطار
عقلهم هيك، حيف عليك يا غيلان أن توقع في جورة ماتختلف عن غيرها، فالشكل
والطعم كلها شِراك بتنصبها المرأة لصيد الزلم. إذا بدك بنتي نجلاء بجعلك
تترجرج فوقها، ولها مثل رملة بنت آل مبارك، اللي كادت تطير عقلك من رأسك،
ياحيف عليك...ياحيف عليك......ياقلة عقلك....‏


قهقهت
ضاحكة، حتى استلقت على قفاها، وسحبت سيجارة ملفوفة من طبقة ابراهيم الجعفي،
وغدت تدخن في صمت وتراقب عيني غيلان الجعفي في حزن مقهور، وبشفقة بائنة،
سافر أيوب السارح بنظراته إلى هلوك الغاوية التي لخصت المأساة كلها
بأسلوبها الخاص، وتداعت إليه في لهيب النار وفرجاتها، صورة المرأة الأولى
التي عشقها، وفجرَّت أحلامه وأثارت كوامنه، وأمضته بالشوق والتباريح وحرقة
الجوى، وأضاع زمناً نفسياً لا حدود له في ترقب اللحظات المتوهجة التي يحظى
بالترجرج فوق الجزيرة الفطرية التي أجادت التعبير عنها جارته هلوك، وأردف
قائلاً:‏


- كم
رميتني يا هلوك في تداعيات كانت منسية في قعر الزمن، وأرعبتني بالعري
الحقيقي، إن أحلامنا أجمل من واقعنا، وإن الغلائل الشفيفة التي ننسجها حول
جسم المرأة وأشيائها الخاصة، أشد توهجاً وعذوبة من طعم عريها النوعي
المكرور، كم ناطحت من الأجساد الأنثوية حتى وصلت إلى هذا القفر في علاقتنا
بالجنس الآخر الذي تفور حوله أحلامنا كما تفور التنانير الجبلية بالتوقد
والاشتعال، وبعد أن نكشف كل عريه، ينتابنا القرف والسأم ونفتش عن برازخ
أخر، نتوهم فرادتها وخاصيتها، ورغم ذلك مازلت أحن بشكل مهووس إلى تجارب
جديدة، وأتلمس جسم المرأة الناعم، ورائحة فوراتها وتخبطاتها المتنوعة.‏


أمسك
بالمحراك المتفحم في رأسه، غدا يضرب الجمرات الحمر في الوجاق، فتتناثر
رماداً في القعر، لا حظ نبيل السواحلي تلك المعاني التي أضرمها بحركاته،
أوغل بعيداً في السقف الأسحم من الدخان، انكشفت عينا أفعى الساموك، وسقط في
بؤبؤها الجامد، بريق النار، وتحركت قليلاً من وراء الطنب الخشبي. كان يعرف
سابقاً أن هذه الحية أليفة، تناقلت عنها الحكايات الغريبة، أنها تنزل من
السقف في غياب الأسرة، وكانت تهز السرير الخشبي حين تسمع بكاء الأطفال حتى
أن وطفا الأم لمحتها مرات عدة، تلف ذنبها حول إطار السرير الخشبي، وتهزه في
حنو، وتسكت الرضيع غيلان وتهدهد من بكاء ابنتيها اللتين جاءتا إلى الدنيا
من بعده، وهاهي ذي الآن، تشاهد من السقف المأساة، وتحس بالحزن الحيواني،
وتريد أن تشارك الأسرة في محنتها، بعدما استحال الأطفال كباراً، وتداعت
إليه أسطورة الخليقة الأولى من سراديب الماضي، وطفت صورة حواء تطعم التفاحة
الفطرية إلى الأب آدم وتذيقه طعم جسدها المتوهج، وتكشف له عن عريها الخاص،
ورمانتيها الشفقيتين، فيتوه في الخطيئة والمعصية، وتغريه بالأكل من الثمرة
التي حرَّمها الله، بإيعاز من الحية، وكانت الهبطة التعيسة والضياع في
أقاليم الليل والنهار، ومعاناة السقوط في تضاريس الجسد الكثيف وفحيح
الشهوة، لم يدر لماذا ترتبط الحية الأفعى في ذهنه بالمرأة؟ ألعل الحية كانت
امرأة في الزمن السحيق، كما يقول أصحاب التقمص، وأشبعت جسدها متعاً على
حساب روحها، فأوغلت في الإثم، وأكلت بنهديها كل ملذات العالم، وانطفأت في
الحمأ المسنون، وتقمصتها حية وراء الساموك لم يمت كل نزوعها إلى احتضان
مأساة الإنسان، ثقبته هذه التداعيات المفارقة، أراد أن يقطع تلك الخيوط
العنكبوتية العتيقة، فتسلقت نظراته ملامح رباب المتفتحة كسوسنة الجبال على
إطلالة الصباح. شعر بأنه يطرد الروح الثقيل من تلافيف دماغه، تسللت حزم
فجرية من شقوق الباب الهرم، وبقبق غليان الماء في الإبريق الصدئ، وتصاعدت
رائحة بنفسجية من خلال النقيع، حملته إلى مرجة البنفسج والزوفا الكائنة
وراء الغابة، صبَّت الأم وطفا النقيع الحار في كؤوس خشبية نحتها الأب
الجعفي من الشجيرات الطرية ولبابها، وتعالت الارتشافات بإيقاع رتيبي أنيس.
اكتسحت غيلان الجعفي أحاسيس التعاطف، كشطت عن أعماقه تلك الغمة القاتمة
واللزوجة الوحلية، وافتر ثغره عن ابتسامة، شعر أن روح القطيع تسري في عروقه
فتمنحه الدفء الرحيم، بعد أن كان يتردى في صقيع الخيبة، وتلفُّه قشعريرة
البرداء والغثيان الأصفر. صفت سماء البحيرة في دهاليز نفسه الخفية. رانت
سكينة فوق الموج الذي كان يصطخب، ويرتطم في أوجاره، ويحدث هزات تحتية، كما
السفينة التي تعصف تحتها التيارات، فتدومها وتجعلها أشبه بقشة مترنحة،
اندهش من تلك التحولات وتساءل في داخله (أين اختفت تلك الفزَّاعات المتوحشة
التي قضمت أعماقي، وتلك الجرذان الساكنة هناك في السراديب المبهمة؟ أين
ذلك الرعب الغولي الذي طغى بوحله الرخو، وانعكس أشباحاً غريبة تنعب في
الفضاء الكامن في خفايا ذاتي؟ أين هربت خفافيش الليل البدائي وصور الانتحار
والموت؟!) ندَّت عنه تنهيدة، تدحرجت على شتفتيه آهة مجروحة، ولا مس العالم
الخارجي بكل مشخصاته، وخيمت عليه طمأنينة السطوح، وبروز الأشياء
بمحسوساتها. ترجم نبيل السواحلي مغزى تطلعاته التي تطوف حول شبابته
القصبية، واللهفة المشدودة إليها فربت على كتفه، وهمس في أذنه:‏


- هل لك أن
تسمعنا صوت أعماقك، وتلهب القصب باحتدام نفسك وترسم لنا البراكين الخفية
التي اشتعلت في حناياك، وهسيس الحمم العاطفية، ودوَّي الرعد القاصف الذي
تأتى من تلك الزلازل والتحولات التي اعترتك؟ إنها الطريق المجدي، لتخفيف
الضغوط عن تلك الهزات المُسْترة فلتحاول أن تجسد ذلك وترسمه باللحن
والإيقاع لكي تمتصه ويخفّ ثقله الهمجي عن القيعان المجهولة.‏


أمسك شبابته،
وراح ينفخ فيها، ويلتقط أصابعه عن الثقوب، ويفجر الأنغام،وينفث حمم
العواطف، ويحمل أنين البحيرة الكامنة، ويحيل الأمواج التي كانت فريدة، إلى
موسيقا مفعمة بالإيحاء، انفتحت مصاريع كانت مغلقة، عصفت بالأب ابراهيم
الجعفي ذكريات منذ أربعين عاماً والتمع شريط كأنه مدينة مطموسة تحت خرائب
الأزمنة في رمال الصحراء وسفَّت الريح عن وجهها، فتبدت معالمها؛ المجاعة
الضارية في أيام سفر برلك، التشرد المريع في البراري، عصابات الشتا، التي
كانت تنقب البيوت الطينية من سطوحها وتنزل إلى الناس فتسلبهم مؤنهم
ومواعينهم، وتغتصب البنات البكر أمام عيون الأهل، وحينما هرب أبوه محمد
الجعفي من الطاعون الذي اجتاح القرى، وأصبح البشر يموتون في الطرقات دون أن
يجدّوا من يقبرهم، وضاقت الدنيا بمن فيها وسقط مطر ربيعي مثل تلك الأيام،
وصارت السواقي أنهاراً، وعصف الهلاك بالعائلة، فلجأت إلى عبَّارة صغيرة فوق
ساقية، وانحشرت في ظلها هروباً من المطر، وكانت أمه خولة تخرج حلمتيها
وتضعهما في فم أخيه الرضيع عمَّار لتنسيه بكاؤه وبلله، وكان إبراهيم الجعفي
آنئذ في الثامنة من عمره وأخته ريما في السادسة، وفاجأهم السيل، وانقض
عليهم كوحش كاسر وقذف بهم من الجهة الثانية للعبارة، وتمسكوا بأغصان
الزيزفون النامية هناك، ولكن الرضيع عمَّار ابتلعه السيل وغاص في الأودية،
وجُنت أمه ومزَّقت ثوبها، دقت على صدرها، ولولت، ذرفت الدموع مدراراً...
انبرت تفتش في الطين الذي غادره السيل بلا جدوى، تحملق في سماء كانت غائمة،
وكشفت عن سمائها العتيقة، وتلوح بيديها في فضاء شامت وتصرخ: اشبعي من
قرباني يا ها السماء الحاقدة، وابتلع فلذة كبدي يا هلمتخبي وراء الغيب. كان
كلما أوغل غيلان الجعفي في تلاوينه الإيقاعية، وتضاريس اللوعة التي تسري
في الأشعار الشعبية والموالي وسكابا ورعشات الحنين في ثقوب القصب، أوغل
والده معه في قعر الماضي، وتذكر حادثة العبارة المشؤومة، وغرق أخيه الرضيع،
وابتلاع السيل لجسده الغض، وغيابه في الطين والطمي. لم يفهم لماذا خطرت له
بحات الربابة في جنون مفاجئ؟ نهض إلى الصندوق القديم الذي ورثه عن أمه
خولة التي امتلأ فمها بتراب المقابر، وأخرج الربابة من غطائها الباهت،
ودوزن أوتارها، ومسح غبارها، وأقعى بجانب الوجاق، وارتسم على وجهه ظل من
يودع الأرض ويرحل عنها، وتناوحت الربابة في بحاتها مع شبابة ابنه القصبية،
وامتلأ البيت الطيني بنوافير النغم، وسطعت معاني قصية من خلف تلك الإيقاعات
وأحست وطفا الأم أن علائم الرحيل والهجرة من جديد في أقاليم المكان تكمن
في بحات الربابة، وأن ابراهيم الجعفي يقرع نواقيس الرحيل كما هي عادته،
عندما تملؤه الفاجعة والقرف والسأم من المكان، ويتفجر بركان الأعماق بحمم
لا قبل له أن بتحمل لهبها، وتزحف الجدر السود والمعِّوقات في طريق حياته،
فيهرب إلى أمكنة جديدة، لعله يجد في التراب الجديد والأرض التي لم يألفها
من قبل، بواكير حياة، وأجنة تتفتح عن رشيم يوحي بقابليات جديدة، تتخطى جحيم
الآخرين، وترحل في حماسة صوب آفاق مكانية اكثر دفئاً واحتضاناً لمأساة
الإنسان المسحوق.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://starlook.alafdal.net
 
خرائب الأزمنة الفصل 5
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خرائب الأزمنة الفصل 9
» خرائب الأزمنة الفصل 10
» خرائب الأزمنة الفصل 11
» خرائب الأزمنة الفصل 12
» خرائب الأزمنة الفصل 13

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ستار لوك :: الروايات-
انتقل الى: