منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ستار لوك


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خرائب الأزمنة الفصل 7

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
BaSmA iBrIz

BaSmA iBrIz


انثى عدد المساهمات : 1387
تاريخ التسجيل : 04/03/2011
العمر : 25
الموقع : /https://starlook.alafdal.net

خرائب الأزمنة الفصل  7 Empty
مُساهمةموضوع: خرائب الأزمنة الفصل 7   خرائب الأزمنة الفصل  7 Emptyالخميس 23 يونيو 2011, 14:24


الفصل السابع

المقر في عين الغار‏

كانت قرية
عين الغار تتسلق مثل قطيع من الماعز السفح الجنوبي من نهر السبع وتتناثر
البيوت بين جفنات الغار والريحان وسناسل الديس البري في نمطية واحدة، وتضيع
بين المنبسط الذي ينفتح فيسمح بإقامة البيوت المتقاربة المبنية من الدفش
والحجارة الغشيمة، والتي كان أغلبها مسقوفاً بالقصب البري والطيون والبلان،
وقد طُيِّنَ السطح والجدران بالتراب الأبيض الممتزج بقش التبن الذي يمسك
الطين. وكانت الجدران المتشكلة من هذه الحجارة، تبدو منتفخة غير متناسقة
تنذر بالسقوط كلما دوى الرعد وأومض البرق في الشتاءات التي ينزل فيها المطر
مثل أفواه القرب ويجرف الحصا الصغيرة. وكانت المقبرة تتوسط أجمل مكان في
القرية، وبجانبها قبة الشيخ نجم الريحان الذي لا يعرفه أحد ولكن معجزاته
الخارقة وبراهينه الساطعة تتغلغل إلى مخيلة الساكنين في منعرجات السفح،
وتلقي المهابة والجلال في أعماق القلوب. وكان سكان عين الغار يفخرون بأن
أصولهم عربية ترجع إلى سلالة أمير عربي توضع في سنجار زمناً، وزحف إلى هذه
الجبال المنيعات بجيوشه وأزال عنهم الإبادة والطغيان، وتجذروا منذ ذلك
الزمن في شعاب الجبال والغابات واتخذوا الخلوات ملاذاً لهم وعانوا ما لا
يتحمله شعب في التاريخ من الحصار والملاحقة والتنكيل المستمر، وترسب في
عقلهم الجمعي التخوف من الآخرين الأغراب، وأسقط الخازوق التركي في
خيالاتهم، كوابيس من القتل والذبح الجماعي، حتى أن ترانيم شعرائهم
المنكوبين، تتسرب إلى نايات القصب، ومواويل العتابا في أفراحهم وأتراحهم،
كأنما كتبت عليهم المسكنة، وكانت قربى وأواصر تشدهم إلى أهالي غويران الوطا
والقرى الجنوبية وفلاحي الجرود المنتشرين مرابعين لدى أغوات قرية
العثمانية الترك. وكانت مزاراتهم بلسماً لجروحهم، ومشفى لأمراضهم، يحوكون
حولها أنسجة الخوارق، ويلوذون بها في أوقات ضيقهم وكان عزاؤهم الكبير
يتبلور بإيمانهم غير المحدود، بأنهم ورثة الأئمة العرب الذين هلكوا قتلاً
وفي الزمن الأول، وفي الناحية الشمالية الموازية لنهر السبع تجمعت قرية
العثمانية على مرتقى، ينبسط في الأعلى، وتلتمع فوق أرضه البيوت المبنية من
الحجر الصلد المنحوت، تظللها عرائش الدوالي والصنوبر، ويبدو الترتيب
والتنظيم ظاهراً في تلك المصاطب الرحبة، والعيون المصبوبة ذات الأقنية
والمصبات الحجرية الأنيقة التي تتدفق منها المياه العذبة. كان سكان هذه
القرية وتوابعها الشمالية من بقايا الأتراك الذين اقتطعوا بفرمانات
السلاطين أخصب الأراضي وتشكلت بفعل مرور الزمن إقطاعات واسعة، شملت
الحواكير والأراضي والغابات التي تجاور النهر من الضفتين، وتمتد حتى تلاصق
أملاك غويران المزار التي يمتلكها آل مبارك الذين يتشابكون في قربى مع آل
عثمان بك القانوني إذ أن مبارك الجد تزوج جيهان ابنه عثمان بك، وتعمقت
أواصر القربى بين الأسرتين الإقطاعيتين. استقرت عائلة إبراهيم الجعفي بجانب
المقبرة التي تتوسطها قبة الشيخ نجم الريحان فالبيت الذي سكنوه هو أحد
بيوت الدخنة التي كان يستخدمها آل عثمان لتدخين التبغ قبل تصديره، غير أن
الطلب من هذا النوع المدخن توقف، وسُلم إلى بدر الجعفي ليرممه، ويطينه،
ويُسكِّنُ فيه من يريد من الجرود والأغراب القادمين، وكان بدر الجعفي على
صلة طيبة مع أغوات العثمانية، ووقافاً على أرزاقهم في قرية عين الغار
وعيناً من عيونهم، يشرف على البيادر وتذرية القمح، ويرشم كومات القمح حتى
لا يسرقها المرابعون، ويرسل الحصة للمالك ويحاسب بلا رحمة الفلاحين الذين
لم ينالوا من أتعابهم المضنية ما يقيم أودهم. لذا كانت صعوبة الصخور
وقلعها، وتعزيل الحواكير من الحجارة وقلة التحصيل من نتاج الأراضي، وبناء
الرعوش الصغيرة كل عام، كلها طاحونة همجية تهرس أجسام أولئك الكادحين،
وتصير أعمارهم قصيرة، تتلاشى في العراء.. ولا يكاد الفلاح يبلغ الخمسين حتى
يذوي، وتعصف به أمراض شتى ثم يموت. وقد استطاع بدر الجعفي بشطارته وقسوته
على الجرود، رغم أنه منهم، وبلصه بعض النتاج من الأغوات، أن يبني بيتاً
واسعاً من ثلاثة سواميك، ويفرش أرضيته باللباد الصوفي، ويرتب الفرش
النظيفة، ويجعل من سرحة أحد السواميك منزولاً للضيوف الآتين من الجهة
الشمالية لنهر السبع وكان المنزول يبعد ضربة مقلاع عن القبة التي استقر على
مقربة منها ابن عمه إبراهيم الجعفي وعائلته. وكانت مقبرة القرية توازي
السفح الشرقي وتركع على أقدامه التي انتشرت حولها غابة من السنديان والشوح.
وعلى إطلالة نهر السبع توضعت العائلة الجديدة، ومكثت ثلاثة أيام في حرم
القبة، قبل أن يُطلى البيت بالحوّار الأبيض الذي نقله غيلان وأيوب السارح
من ضفاف النهر على ظهور الدواب وقد امتنعت وطفا الأم أن تدخل بيت الدخنة
قبل تحويره وتطيينه بالتراب النظيف لأن الأرواح الشريرة تقطن وفق معتقدها،
في المزابل والأمكنة القذرة والسواقي النتنة، والخرائب المنسية، بعد أن
تفارق قمصانها البشرية وأخوها الشيخ عمران في قرية التلات المشهور بعلمه
وتقواه، طبع في ذاكرتها أن لا تسكن بيتاً جديداً، إلا ويكون نظيفاً
ومُحَوَّراً، وأن تذبح على عتبة بابه قرباناً ولو كان عصفوراً صغيراً. ورغم
أن الربيع وصل ذروته في الروعة والبهاء، وتفتحت أزاهير المونس فوق القبور
المتناثرة في غابة السنديان، وغنت العصافير فوق الأحراج المتاخمة للنهر
أعذب أغنياتها وتأرجت جفنة الزيزفون برائحة واخزة، والتمعت الخضرة في مرجة
المزار، ولكن وحشة كئيبة ظلت مترسبة في أعماق الأسرة، ما خلا الأب إبراهيم
الجعفي الذي استأنس بجواره لقبَّة الشيخ نجم الريحان وراح يتمتع بالجلوس
تحت تلك السنديانة الضخمة التي تحتاج إلى حبل طويل حتى يزنرها، حتى يتقول
المسنون أن الشيخ صاحب القبة هو الذي غرسها منذ زمن بعيد لا يحدّ عليه أحد
ممن يسكن في قرية عين الغار وأنه تصوف، ولاذ بالصمت والتأمل، وانبثقت عنه
البراهين الخارقة وانه كان يوغل ليلاً في الجبل وحده، ويناجي أخوته من
الأرواح الطاهرة التي صفت من كدر الجسد، وجعلتها المعاناة المضنية، تنتصر
على نزعاتها الأرضية وتشف حتى أضحت نجيمات مضيئة، تتلألأ في كبد السموات
اللامتناهية وتزور أحياناً، إخوتها من الموحدين الذين لم يصفوا بعد، وتنزل
عليهم شهباً نورانية في خلواتهم إن كانوا أحياء، وتتساقط على قبورهم أشعة
مشرقة، يراها الساهرون في الليالي المظلمة كتلة من ضياء، ويوغل الرواة في
الحديث عن براهينه ومعجزاته أنه كان يقضي أيامه ولياليه في جفنة الريحان
مكان قبته الحالية، ويشعل سراجاً من فتيل الزيت ولا تقدر كل الأعاصير وعنف
الشتاء أن يطفئاهُ. لهذا تظل أكداس الحطب في غابته طوال الفصول، ولا يتجرأ
أحد أن يمسَّها، أو يحرق غصناً منها، إلا في أوقات الأعياد والقرابين
والولائم الدينية التي يطبخ فيها البرغل واللحم وتذبح الخراف المُسَّمنة،
ويوزع الطبيخ واللحم على القرية في غضائر فخارية، وتمتلئ المخيلة الشعبية
بالحكايا عن الشيخ نجم الريحان أنه كان يرى القادمين إليه عن بعد ثلاثة
أيام، ويقرأ التعاويذ على الموسوسين والمجانين، ويضربهم بالصرامي والأحذية
على رؤوسهم حتى يخرج العفاريت والجن منهم، ومن أعجب خوارقه أن أحد الولاة
الأتراك، أهلك الرعية وانتهك الأعراض، واستباح الصبايا، وأثقل الناس
بالضرائب، حتى هام البشر على وجوههم في البراري، ولم يجدوا مغيثاً إلا
الشيخ نجم الريحان الذائع الصيت وبراهينه التي لا تصير إلا لذوي العزم، وقد
صنع قوساً صلباً من شجر الزرود، ونحت نصلاً من شجر الشربين، وقرأ فواتيحه
وتعاويذه، وحرق البخور في مجمرته الخاصة، وتبتل في العبادة ثلاثة أيام وسدد
سهمه إلى جهة الوالي الظالم الذي كان يبعد عنه مئات الكيلو مترات، وفوجئت
الحاشية التي كانت في القصر، بسهم يأتي من غامض علم الله، ويخترق صدر
الوالي، ويصيب منه مقتلاً، وظن غيلان الجعفي أن والده يتحدث عن هذه
الخوارق، ويكرر روايتها، إما ليسوغ سكناهم الموحش بجانب المقبرة والركون
إلى بيت الدخنة، وإما ليغرس في قلوبهم التقى والخشية من هؤلاء الجيران
الموتى الذي يلقون بظلالهم المشبوحة تصورات مخيفة في ذهني أختيه الغضتين
اللتين صارتا قصبتي غاب ترتعشان حينما تحدث خشخشة في القبة أو حواليها، أو
حينما يصرّ بابها العتيق، وترسبت تساؤلات كبيرة في عقلية غيلان الجعفي عن
الجن والخوارق، وغدت تتصارع في أعماقه الصور عن وجود مستقر فكري يلوذ به،
أحسّ أن تصورين متناقضين، يزحمان عقله، تصور غرسه نبيل السواحلي بأن لا
وجود لشيء لا يقع عليه الحس، أو يتناغم مع العقلية الإنسانية، وإن الطبيعة
تسير وفق قوانين أزلية لا يمكن للخارقين في كشوفهم الروحية أن يغيروا من
قوانينها، وتصور آخر مغاير عميق الجذور، يلطو وراء لا شعوره، يتمثل فيه أن
نواميس الطبيعة، يخرقها أولياء الله، وأوصياؤه في الأرض، ويغيرون من
قوانينها المألوفة، وأن الجن أقوام كانت بشرية في الذرو الأول وسخرها النبي
سليمان الحكيم لمشيئته، ولكنها اختفت فيما بعد في أماكن مهجورة ومواضع
خالية، وسكنت السواقي الموحشة، والجفنات الجبلية والبراري التي قلما يطأها
انسي. ولكن أيوب السارح الذي عجن الحياة وخبزها على تنور المعاناة، دشن
سكنى هذا البيت، بجلب ألفية عرق من العنب الذي سلسه سويلم الدرويش خفية
بكلكته المنعزلة في جوار أعالي نهر السبع قبل وصوله إلى الجسر الكفري الذي
يوصل ما بين القريتين العثمانية، التركية وعين الغار) كان مكان الكلكة
مستوراً بين جفنات الغار وتحت مغارة عميقة في جوف الجبل، اتخذها سويلم
مكاناً له ولعائلته ومنعزلاً عن العيون وجواسيس السلطة. وكانت أقرب المواقع
إليه قبة الشيخ /نجم الريحان/ والمقبرة وبيت/ إبراهيم الجعفي/ الجديد، وقد
اغتبط /أيوب السارح بهذه الجيرة، ونطق بكلمته المعبرة في إحدى الليالي
الساجية التي التهم فيها صمت المقبرة، وسقطت نيازك على الأفق الصافي الذي
يخال الناظر إليه أن السماء تلتصق بالأرض. وهتف بعد أن تسربت إليه السكرة
وتغلغلت إلى أعماقه الخفية:‏


-الجسد بعد
رحيل الروح عنه، يتفتت تراباً نخراً، والقبور التي يسكنها الجسد البالي هي
شواخص، تذكرنا بأناس مروا على نهر الحياة، كم مرعب أن نجعل الموتى الذين
لا حراك فيهم، يسممون حياتنا، يقفزون أشباحاً على شاشة مخيلاتنا، زمن الجن
قد مضى في ظلام التاريخ، فلا تحركوا المستنقع الراكد الذي أرعب نوعنا
البشري، وصلبه على فزاعات الدروب. كم قرأت من الكتب وبلوت من التجارب لأصل
إلى برزخ الحياة والموت، والجسد والروح وقديماً سمعت حكمة بليغة تقول (اعمل
لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً).‏


صب كأس
العرق، المصنوعة من الشجر، في جوفه، تسلقت عيناه السنديانة الضخمة، اعتراه
إحساس بالتأقزم أمام جبروتها، وصغره حيال فروعها، وتقادم السنين عليها
وأوغل في داخله هامساً (كم أنا صغير بجسمي أمامك أيها السنديانة الفارعة.
كم تعاركت مع روح الفصول وما زلت راسخة في التراب، لا تحسين بهول الزمن.
أما أنا الذي سرح في أقاصي الدنيا وامتلأ بالفجائع والآمال، فإن روح الزمن
تثقلني بإحساس القلق الدائم، وترَّبص كابوس الموت.‏


ارتعب
غيلان الجعفي من ارتسامات غريبة كانت تعكسها النار التي أشعلتها الأم وطفا
لتطبخ للعائلة طبخة البرغل، على وجه أيوب السارح الذي راحت ارتسامات وجهه
تتقطر بتعابير غامضة، حزينة، يخالطها الشر، حتى أن رباب اعترتها أحاسيس
بأنها في حضرة المقام الذي زارته في الرابع من نيسان المنصرم وقالت:‏


-شايفتك مثل مصلوب فوق خشبة، ياعم أيوب، وبصبوص عينك يشرق بالحزن، بشيء مجهول مالو حدود.‏

حملق أيوب
السارح في نهديها المتكوزين جديداً، مثل براعم الزنبق الجبلي وسرح في خصائل
شعرها الأشقر المشبوب بحرائق الأصيل، وبشفتيها الزهريتين اللتين يتوق
النحل إلى أن يحط عليهما، فنبضت عروقه وهفا قلبه إليها. لم يدرك سر هذه
الفتنة من قبل، وأوغل من جديد في مغارته الداخلية، وهو يرتشف طيفها الشديد
العذوبة، تحت ألسنة النار الجبلية وقد نهضت لتساعد أمها في إضرام النار حتى
تستوي طبخة البرغل في سرعة وبرز العراك بينه وبين الكوابح الاجتماعية،
وأحس بأنه في غيابة بحيرة عميقة الزرقة، مُعَرَّى من ثيابه كما جلبته أمه،
تسبح حوله بجعة بيضاء، ثلجية الريش، بين ظلال مونقة، وحقل من أزاهير الزنبق
البري، يرف فوق الشط الخضير. وقد امتد كل شيء في جسده وتفتحت كواه على
العالم، ليمسك بالبجعة البيضاء، التي كانت تقترب وتبتعد في التماع عجيب،
حتى أضنته المحاولة في إمساكها، ونبهه من حلم اليقظة ومن سكرته المجنونة،
صوت الأب إبراهيم الجعفي:‏


-أراك،
ذهبت بعيداً في سكرتك، هذا العرق المسلس وليد هذه الجبال، مشهور بشدته حتى
أن بعضهم، يعتصره من حب الآس، ويبدو أن سويلم الدرويش خدعك هذه المرة بعرقه
المكرر. حاول أن تملأ بطنك بالأكل، لأن الشرب على الجوع يفتك بوعيك، ويزيد
من تأثير السكرة.‏


تجمعت
الأسرة حول صينية الطعام والخواشيق الخشبية تطقطق وهي تصدم أطراف المقلاة
الفخارية التي يجود بها طبخ البرغل، وكان أطيب الطبخة إلى غيلان الجعفي
البرغل المحروق في أسفل المقلاة الذي يذكره دوماً بثمرات البلوط التي
تتساقط عن أماتها، وتجمع لتشوى على نار الوجاق في الليالي الشتوية وتلمظ في
مذاقه. وقال:‏


-لا أفهم
السر الذي يسوي البرغل المحروق في قعر المقلاة رائع المذاق. كم أشتهيه
دوماً يا أمي! رغم أني أكرر أكله كل يوم فلا أكرهه، كما هي العادة في
الأصناف الأخرى.‏


نهض أيوب
السارح قبل أن يشبع، اعتراه غثيان لم يكنه سببه حينما لمح رباب التي كانت
تشحن مخيلته بحضورها الكاسح، تتلمظ بالطعام ويسيل الزيت على جوانب فمها،
انتبذ مكاناً قصياً عن صينية الطعام القشية واستند على طرف المصطبة
الترابية، ودرج سيجارة من علبته الصدئة وأشعلها في صمت الليل الساجي،
ونيران رعوية تثب في الدغل الشمالي من قرية العثمانية. ودخل في بوابة معتمة
من زوايا نفسه وتساءل في حواره الداخلي [ما هذه المفارقة في فهم ذاتي؟ كنت
أتحرق شوقاً إلى عريها، وأتخيل دنيا ساطعة بين تكوز نهديها، وانفراجاتها
السحرية، وأتلهف في سبحات أحلام اليقظة إلى الإمساك بالبجعة البيضاء وسط
بحيرة منعزلة، فما حالي، أهبط إلى القرف والمقت، لما سمعت صوت تلمظها
بالطعام، ورؤية الزيت يسيل على جوانب فمها، ما هذه الأشياء الخفية؟ التي
تكون رغباتنا وميولنا، وتشكل خيوط الحب والكره في خفايانا. كم مرّ من سنين!
وما زال الجانب الكبير من ذاتي يكتنفه الغموض وعدم الفهم في تقلباته يا
إلهي. أين يكمن إنساني الحقيقي] واستفاق من تساؤلاته المتأملة على لكزات
رباب لكتفه وهي تقدم له فنجاناً من الزوفا:‏


-قمت عن الطعام قبل أن تشبع يا عمي أيوب- فاشرب الزوفا ونقيع البنفسج، بعرف أنك تحب هالنقيع...‏

انغرزت
كلمة يا عم في قلب أيوب السارح كأنها شوكة البرصين البري في لحمه، عصف به
غضب مقهور، جعله يكبّ الفنجان فوق أرضية المصطبة، فار تنور في كيانه، التهب
حريق في شعاب نفسه، غطَّى عينيه بيديه حتى لا يرى أحد انفعالاته، تزاحمت
عليه صور الداخل (معنى هذا أني أصبحت شيخاً، لا تقولها النساء، إلا لمن
يكبرهن بكثير، أو محرم عليهن). حارت رباب في تفسير موقفه، تراجعت إلى الخلف
مذعورة من تصرفه لاحظت أمها وطفا ذلك التغير المفاجئ، وأنبتها قائلة:‏


-ولك شو فعلت يا مغضوبة؟ وقريضة ! أنت دوماً ساذجة شو قلت لو؟ حتى صار في هدي الحالة المشؤومة؟‏

أسرعت بقية
الأسرة إليه، ربتت على كتفه وطفا وعانقه غيلان الجعفي ومسدت يديه سحاب
وانتزع إبراهيم الجعفي الربابة من الوتد الخشبي المغروس في الجدار الحواري،
وأمسك الوتر وشدَّه، ليصبح أكثر رهافة في إخراج الألحان، واندلعت
البحَّات، وأصدت المقبرة، واهتزت الكائنات الهرمة خلف الليل، وتناوحت
الغيران وضفاف النهر، وتبرعم في مسمع أهالي قرية عين الغار إحساسٌ بأن هناك
أسرة جديدة توضعت بجانب القبة، وتآخت مع الموتى والسكينة والعتمة، لتدوّم
في الذاكرة قدوم أناس لايخافون من هول المقابر وجزر الصمت الأبدي بل يرسمون
في عمق الوحشة دوائر الطرب، وبحات الربابة التي كانت تجرّح وجه الصمت،
وتخلق ألف إلهام عن أن الروح الثقيل، والعزلة الكابية، والسأم المقيت،
تحتاج إلى قدرة على التكيف، وكسر القشرة الخارجية لثمرة الحياة، والوصول
إلى اللب الإنساني العميق، المغلق على الأحلام الكسيحة، والذكريات القديمة
والخوف من المجهول الفاغر الشدقين، هذه العناصر كلها، جعلت سفينة هذه
الأسرة المقتلعة من غويران الوطا تترنح في رسوها الجديد مصلوبة بين برازخ
الماضي المشحون بالحزن، وبين شعاب مستقبل مبهم يصعب اكتناه مساره وإدراك
مخبآته.‏


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://starlook.alafdal.net
 
خرائب الأزمنة الفصل 7
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خرائب الأزمنة الفصل 14
» خرائب الأزمنة الفصل 15
» خرائب الأزمنة الفصل 16
»  خرائب الأزمنة الفصل 1
» خرائب الأزمنة الفصل 18

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ستار لوك :: الروايات-
انتقل الى: