منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ستار لوك


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خرائب الأزمنة الفصل 8

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
BaSmA iBrIz

BaSmA iBrIz


انثى عدد المساهمات : 1387
تاريخ التسجيل : 04/03/2011
العمر : 25
الموقع : /https://starlook.alafdal.net

خرائب الأزمنة الفصل  8 Empty
مُساهمةموضوع: خرائب الأزمنة الفصل 8   خرائب الأزمنة الفصل  8 Emptyالخميس 23 يونيو 2011, 14:26


لفصل الثامن

قرية العثمانية

في الآفاق الشمالية من نهر السبع وعلى
منسرح من الأرض وفوق التلول المزدانة بعرائش الأعناب، وجفنات الرياحين،
وكروم التين والزيتون كانت تركع قرية العثمانية وتمتد بيوتها قطيعاً من
الغنم الأبيض المغسول جديداً. وكانت المصطبات تجثم أمام البيوت المطلية
بالكلس الأبيض مثل شرفات المباني الفلورنسية وكان شارع إسفلتي وحيد يخترق
تلك القرية التي تنم معالمها على أن مفارقات سحيقة بينها وبين عين الغار
نسجتها ظروف غير طبيعية من الاضطهاد والإهمال والنسيان نزلت على قرية عين
الغار وتركتها تتردى في زوايا الزمان السلحفائي، والخروج عن دائرة التطور
البشري، والمشاهد العابر يستنتج أن القرى الجنوبية من النهر خيمت عليها
عتمة القرون الراكدة والإهمال المتعمد من قبل ولاة آل عثمان الترك الذين
سموا القرية باسمهم، ومنحوها العطاءات وأقطعوا أهلها الأراضي الواسعة
وغمروها بنعماهم، وطفا على السطح إقطاعيون من صلب تركي، يعيثون في الأرض
فساداً يتخذون من الجرود العرب الساكنين جنوب النهر، عبيداً لهم، يعاملونهم
معاملة الدواب، ويمتصون أتعابهم ويلغون بدمائهم، ويستبيحون أعراضهم، وكل
امرأة من الجرود حلال لهم، يترصد شباب العثمانية بنات الجرود وهن يغتسلن
بين دواوير النهر، ويحتمين بالصخور، وبين أدواح الدلب والحور وأجمات الديس
البري، ورغم الموانع فإن عيون الساكنين شمال النهر، تترصد مفاتن العري،
وتتملى في دفاءة مواطن الزغب النسوي الذي ينتف في الخلوات الجنوبية، وكانت
ذاكرات الأحياء من الجرود مليئة بحوادث الاغتصاب والقتل، ومفاجأة العاريات
من أبناء جلدتهم. لهذا آثر الكثيرون منهم أن ينقلوا الماء على ظهورهم
أوظهور دوابهم من دواوير النهر حتى يجنبوا بناتهم جرائر التلصص والاغتصاب
وكسر الأعراض وظلت الانتهاكات الهمجية سائدة طوال عصور السلاطين وفترة
الانتداب الفرنسي، ولم يبرز على السطح إلا تغيير طفيف في عهد الحكم الذي
سمي وطنياً.


كانت المدرسة الإعدادية الوحيدة في
الناحية، تقع وسط قرية العثمانية، وعلى مرتفع من الأرض، يطلّ في مداه على
قرية عين الغار وحواكيرها. هذه الإعدادية، أرغمت أبناء القرى البعيدة على
تجشم المشاق وقطع الأودية والسواقي للوصول إليها. كم أهوال قاساها غيلان
الجعفي وأمثاله من أبناء القرى، بغية التزود بالعلم! وكم مضايقات بلون
الحصار، انصبت على أبناء الجرود، لينالوا الشهادة الإعدادية التي تؤمن لهم
وظيفة متواضعة تقيهم غوائل الجوع والذل، والحرمان. فالجسر الكفري تبدّى في
تلك الأزمنة صلة الوصل بين الجماعتين المتباينتين في الدم الذي كان يجري في
عروقهما وفي العادات المتكلسة التي حفرتها القرون، وتوضعت ظواهر اجتماعية
مختلفة. فعلى الجسر المبني منذ زمن لا يحده أحد في المنطقتين، مشت أقدام
بشرية فوق حجارته وقنطرته العالية، وتلاشت مثل تراجيع أصوات تموت في الضباب
الخريفي. بين فجوات هذا الجسر الكفري كما سماه الأقدمون، استظل العابرون
وقطاع الطرق. كم أناس في أيام سفر برلك شُلحوا وذبحوا على حجارة هذا النهر،
وَرُميَتْ جثثهم في دواويره! وكم اغتصاب بطعم الرغبات المراهقة حدث بين
جفنات الغار والديس البري الكائنة تحت قنطرته، كان غيلان الجعفي وأبناء
ديرة الجنوب، يحسون بأن هذا الجسر معلق بين قارتين، في الشمال منه تستوطن
الخشية والرعب الكوني والخوف من الأغيار، ورواسب الماضي المفعم برائحة الدم
والتعصب التركي الأعمى. كم ليال بلون الليالي القطبية أمضاها سكان جنوب
الجسر، وهم يتحدثون عن الجروح المنزوفة في القفر والحصار، والتعذيب،
واغتصابات العنف، وعقد النقص وأساطير الخوف من مستقبل مجهول. كلها ترسبت في
العقل الجمعي لفئة الجرود وتجلت بشكل عدو متربص يلطو وراء صخور الشمال من
الجسر الكفري لم تخرجه من سراديب اللا شعور الصلات المعيشة، وبعض مظاهر
التلاحم في إطار الوطن والمواطنة ولا إطلاق شعار الدين لله والوطن للجميع،
ولكن تأسيس الحزب الثوري في قرية العثمانية أخفت من تأجج الخوف والحذر
التاريخيين، وقد تأسس بواسطة شباب عاشوا في الغرب ودرسوا في جامعاته،
واستأنسوا بوقدة الثورة الفرنسية، في الحرية والعدالة والمساواة، وتأثروا
بطروحات فخته القومية، والإيمان برسالة جديدة للحياة، تعيد للإنسان مكانته
تحت الشمس، وآمنوا بأن العدالة الاجتماعية ينبغي أن تسود، وترفع أنيار
العبودية عن أكتاف المسحوقين. وكان أكثر الناس استجابة لهذا الحزب الثوري
أيوب السارح الذي أسرع إلى الانتساب إليه والدعوة له، واعتبره فرصة تاريخية
لا تفوت. وانبثت المبادئ الثورية في مناخها المناسب. وانسرب إلى ذهن غيلان
الجعفي إيمان عميق بأن عصور الانحدار التي رانت على العقل العربي يجب أن
تنحسر، وأن النفق العَرقي، الذي غيّب بصراعاته وظلمة تعصبه، كل جمالات
الحياة ومعانيها، ينبغي أن ينفذ إليه نور التقدم والاشتراكية. وكانت
المعاناة ضارية في نشر الرسالة في ديرة العثمانية ولدى أزلامهم في ديرة عين
الغار لأن العقول التي تصلبت رؤياها، واقتصرت على المكرور من العادات
والتقاليد، وأنماط التفكير، يصعب تغييرها، وتحتاج إلى كل المطارق والمخارز
للنفوذ إلى عتمات القرون الراكدة، وكانت عين الغار مؤلفة من عدة حارات
متناثرة، وحارة المشائخ تجاور الجبل من الجهة الجنوبية الشرقية ويسكنها آل
الخصيب وهي أكثر الأسر أصالة ولها جذور دينية في إقامة الطقوس والصلوات على
الموتى، وفي الأعياد السنوية، وكانت منحازة إلى ذاتها وتشتمل على أسرتين،
تشدهما أواصر قربى، حتى أن أكثر الزيجات كانت تحدث بينهما، فعميد الأسرة
الشيخ أحمد الخصيب يتولى أراضي الوقف المنذورة للأسياد المحاطين بهالة
القدسية والجلال الديني، وله ثلاثة أبناء، حمزة ووحيد وعمار وبنتان هما:
علياء وزينب، وأسرة ابن عمه محمد الخصيب وتشتمل على سعيد ومنتجب الخصيب
وابنتين هما نجوى وصبا الخطيب وأسرة بدر الجعفي وتتألف من أولاده الثلاثة
عنفوان وليث ومازن ومن ثلاث بنات هن ثناء وربيعة وماجدة الجعفي وتسكن الجهة
الغربية الجنوبية، أما الحارة التحتانية المتاخمة للجسر الكفري والمطلة
على قرية العثمانية فكانت تشتمل على أسرة الغشيم ، والصوان وآل برقروت وكان
جميعهم يعملون مرابعين لدى أغوات العثمانية الذين يملكون الأراضي
والحواكير، حتى بيوت الدفش التي تسكنها الأسر الثلاث. وكانت سيطرة الأغوات
طاغية، إذ يحق لأي أغا أن يطرد من يشاء من مرابعينه، وفي أي وقت كان، كم
طرد أناس في عز الشتاء، وتحت المطر والريح العاصفة، وخارج بيوتهم بلا مأوى
في أزمنة همجية، إذا لم ينصاعوا إلى إرادة الأغوات الأتراك، وإذا استحسن
أحد الأغوات امرأة المرابع، فويل لها إذا لم تستجب، فيسحبها عنوة إلى جفنات
الغار، ويقضي شهوته منها، ولهذا ظهر خليط غريب من أولاد الحارة التحتانية،
وفي أقصى الجنوب المؤدي إلى غويران الوطا تعرشت بيوت الجرود على السفوح
وبين غابات البلوط والشوح والسنديان، وفي انعزال مهيب عن حركة الحياة،
كأنهم مرميون في صحراء العزلة، يستنبتون الأرض، ويعزلونها من الحصى، ويشقون
الصخر ويعتصروا منه لقمات ممزوجة بالمرارة والعمل الدؤوب بتعمير المصاطب
ومنع جرف التربة، وزرعها بالدخان البلدي الذي يجدد في هذه الحواكير المسمدة
بزبل الماعز الجبلي، وتوضعت عائلة سويلم الدرويش بأقصى المغارة الشمالية
الشرقية المشرفة على أعالي نهر السبع وقد شملت عائلة سويلم على خمسة أبناء
ذكور: حمدان، نبهان، دغمان، شجاع، رافع، وأربع بنات هن: وحيدة، جميلة،
حزينة، رابية، ومن تحت هذه المغارة التي يسمع منها هدير الماء، ويتدفق
ينبوع جارف من عروق الصخر، يتجمع نهر سيلي، يشكل دواوير، وشلالات صغيرة في
منحدره السحيق، ويضيع في الآفاق الساحلية، حيث تركن المدن، وتبص المراكب
الليلية فوق الصفحة الزرقاء، مثل حباحب خريفية، تلوح في دياجير الغابات
النائية، وكانت المقبرة تجثم بجانب قبة الشيخ نجم الريحان في الوسط من ديرة
الجرود، وعلى مقربة منها، سكن ابراهيم الجعفي وعائلته بعد هجرانهم من
غويران الوطا ولم يجد الأب مكاناً آمناً أكثر من مجاورة القبور بعد الحل
والترحال في أقاليم الأماكن، وضراوة الإنسان. وقد اتخذ أيوب السارح وغيلان
الجعفي شجرة البلوط الضخمة المتاخمة للقبة، مأوى ومناسباً للاجتماعات
السرية والدعوة للحزب الثوري. وكان أشد المقاومين لانتشاره بدر الجعفي
وأسرته. وحارة المشائخ كانت ضالعة سراً ضد هذا التشكل الحزبي ولكنها لم
تمارس في البدء المقاومة والتهديد الباديين، وانكبت على تكملة عمارة قبة
الجد الأول الملقب بشيخ الجبل جعفر الخصيب وكان سكان الجرود يبيعون
بقراتهم، ويرهنون بناتهم خادمات عند أغنياء المدينة، ليتبرعوا ويوفوا النذر
عن أرواحهم لمقام شيخ الجبل، وكم حكيت معجزات وخوارق عن قدسية هذا الشيخ،
وبراهينه على شفاء المرضى والمعتوهين الذين يزورونه، يبخرون مقامه،
ويتبركون بلثم ضريحه، ويقدمون القرابين والخراف، نذوراً له، حتى روي عنه أن
علمه الوافر تحتضنه رسائل عديدة، مفعمة بالتأملات العميقة، في سبر أغوار
الحياة ومشحونة بالشعر الصوفي ولواعج الحنين إلى الذات الإلهية، والتخلص من
أدران المادة، والارتقاء إلى عوالم الصفاء، واكتناه أسرار، نقطة اللقاء
بين الزمان واللازمان، حتى أن بعض الطاعنين في السن من الجرود رآه بأم
عينه، متجلياً بصورة شفافة، وبلحية بيضاء كالثلج، يستظل بالغارة الخضراء،
أمام الكهف الدهري في أقصى غابة حارة المشائخ، وروت وحيدة بنت سويلم
الدرويش أنها كانت تحتطب في الغابة، وأوغلت بعيداً، فتراءى لها شبح الشيخ
بين الصخور البيض، في جلبابه الأخضر الطويل، وشاشه الناصع المنعقد فوق
طربوش أرجواني. وأصابتها الرعدة، وراحت تهذي، وتغمغم بالحكايا عن الشيخ
الذي لمحته بلحيته الثلجية، وعينيه اللتين تتوقدان مثل نجمة الصبح، وعافت
الطعام والشراب، وقادها والدها سويلم الدرويش إلى حارة الشيخ أحمد الخصيب
وسرد له حكايتها، والتابعة التي تتمركز في داخلها، وأمسك الشيخ الكوب
المملوء بماء النبع الذي طلع من الأرض، عند قبر الشيخ جعفر الخصيب لما
أقدموا على تشييد القبة الجديدة، وتمتم بعض الكلمات الخفية، والتعاويذ
السرية وعمل حرزاً من الورق، علق في صدر وحيدة الدرويش، وتماثلت للشفاء
وذهبت عنها الرعبة بعد أيام عدة، وأوصيت أن لا تقرب بعد ذلك من كهف الغارة،
وتحتطب هناك، لأن سر الله في خلقه ومن تجاوز حدوده، سقط في الحيرة وفقدان
نفسه، وانتشرت هذه الحادثة كالنار في الهشيم بين الجرود، وزيد عليها
الكثير، ونسجت حولها المخيلة الشعبية مسوحاً مزدانة بالمعجزات والخوارق،
وفي إحدى الليالي الصيفية، احتضنت أرض عين الغار شبحين حقيقيين، كانا
يزرعان خطواتهما بين الشعاب الصاعدة من الجسر الكفري إلى قبة الشيخ نجم
الريحان حيث يسكن ابراهيم الجعفي وعائلته، ويقودهما في خطا متوجسة، أيوب
السارح تحت ظلال الليل الذي يضوع برائحة غامضة. أشعة القمر وهو في أيامه
الأولى، بين سرحات الغابة، فيستحيل العالم كوناً مشبوحاً مفعماً بالألغاز
والموحيات، كانت روح الصيف تطوف بين هسهسات الأوراق وخلال الهدير الليلي
عبر مساقط النهر، وتذوب في زرقة سموات، تطل منها تلك الصوامت الأزلية
الملتمعة في قبة اللانهاية، فيتحول العالم الخارجي سمفونية ريفية مسكونة
بالامتداد والاحتضان العميقين وقابلية جديدة لنثر بذور في رحم الأرض
والإنسان، تحت الفيء القمري الشاحب: وترنحات بقايا أوراق السنديانة
العتيقة، بجانب قبة الشيخ نجم الريحان كان اللقاء الأول، ونقطة البدء
للتحرك الجنيني لنشوء الحزب الثوري في عين الغار. أسرع ابراهيم الجعفي
وغيلان ابنه إلى استقبال الضيف الجديد. حملت رباب اللباد الصوفي الحائل
اللون، وفرشته تحت السنديانة، وبجانب شجرة الغار التي لم ينل من خضرتها
الخريف، ووضعت فوقه شرشفاً أبيض ممزق الأطراف وأمسكت بالتكايا المحشوة
بالقش، وركزتها فوق الغطاء، تسلقت عيناها في وَلهٍ نبيل السواحلي اعترت
خداها حمرة الخجل، أبعد معلم قرية (غويران الوطا) تلك النظرات عنه، حتى لا
يلاحظ الجميع ذلك الوله المسمَّر في عيني رباب وهمس قائلاً:


-جئتكم بمناضل فذ،
غني عن التعريف، وهو الدكتور الأخضر العربي الذي اطلع على تاريخ الثورات في
العالم، وفهم وسائل تشكيلها وتنظيمها وهو قائد فكري في الحزب الثوري.


حملق غيلان الجعفي في مرتسمات الدكتور
الأخضر العربي فطالعته تحت ذبالة القنديل، عينان متألقتان سوداوان تسبح
فيهما رؤى مستقبلية متفائلة، حاجبان دغليان يمتدان حتى جانب فوديه، رأس ضخم
مدور لم تبق عليه إلا بقايا خصلات شعر، تبدو كأجمة صغيرة وسط قفار جرداء،
يظهر اكتئاب عميق وتصميم فوري من خلال ملامحه، تلمع أسنانه البيض فوق شفتين
منقبضتين على إرادة. كان معتدل العضلات أميل إلى القصر يوحي بالجلال
والوقار. افتر ثغره عن ابتسامة معبرة، وأجاب ضاحكاً: منحني الرفيق نبيل
السواحلي صفات اتوق إلى تحقيقها، فحبه الزائد لي أضفى علي أبعاداً أحلم أن
أصل إليها. جئتكم سراً تحت جنح الظلام لأن البذور الثورية في بدايتها تحتاج
إلى السرية، وإلى المناخ الصامت والتربة المناسبة لإنباتها، حدثني عنها
طويلاً نبيل السواحلي وأعطاني صورة واضحة، بأنكم التربة الصالحة، ونقطة
البداية في قرية عين الغار وأنتم الجرود، تحملتم من الصلب الهمجي والتعذيب
على رحى الطاحونة الوثنية، ما لم تتحمله إلا الجماعات القليلة في تاريخ
الإنسانية.


تطلعت الأم وطفا إلى سمات الدكتور الأخضر
العربي، وقفزت إلى ساحة شعورها، من رميم الماضي، كلمات الشيخ محمود مبارك
وهو يقول لها، ويشعر بالشفقة والرحمانية إزاء الجرود كم نكبوا، وأذلوا
وشردوا في الأرض بلامسوغ، ولكن رغبته في أن يعريها، ويتملى فخذيها، ويغوص
في لحمها الدافئ، تفوق كل مكامن الشفقة والرحمة بهم. وأخرجها من دهاليز
الماضي ونزف عقدها، صوت ، أيوب السارح وهو يقول في تلهف:


- يفقد هذا الليل طعمه، إذا لم نسكب في
عروقه العرق المسلس من كلكة سويلم الدرويش ولا يطيب السمر، ولا تنبت بذور
الثورة إلا في جلوة الخمرة، ولا تغتسل عتبات الحس إلا بكركرات الأقداح، أنا
لست قدكم في النظريات وامتداد الحروف والمجردات. ولكن الحياة أدركت ذاتها
بالممارسة للمعاناة. سلخ الآخرون جلدي مرات عدة، ونبتت مكان السلخ قرون
مناطحة استعجلي يا سحاب السمراء واجلبي معك الكؤوس الخشبية وأنا سأخرج
ألفية العرق، المخبأة في غارة جارنا المقدس الشيخ نجم الريحان. تفنن الصيف
بعرض معزوفاته الرائعة، غَنَّت عصافير برية في لحف الجبل أشجى أغانيها،
غمغم ينبوع المقام في حارة المشائخ، غمغمات مبهمة ذابت في المدى المشبوح
وامتزجت مع هدير نهر السبع ومساقطه الموغلة في أحشاء الأرض، وبثت نسيمات
العشايا أرغنها في الأدغال الجبلية، وانثالت شهب لامعة، عبرت نهر المجرة،
ومرت فوق القبة، واحترقت في المدى الليلي. ارتعشت ذبالة القنديل الزجاجي
المسور، بزجاج شفيف ذي إطار تنكي يمنع تسرب الهواء، ولكن ثقوبه العدة، لم
تحل دون دخول نفثات العشايا إليه، أوغلت رباب في ملامح المعلم نبيل
السواحلي، وراحت تلتقط تعابير وجهه، وسرت في عروقها نبات شوق خفي، يحنن
نزوعاً إلى احتضانه، خفق قلبها خفقات طير جريح، داهمه برد الأعالي، تلاقت
العيون في وله الحب الصامت، أحست بأن شيئاً خفياً يدغدغها يحاول تعريتها
بين فجوات جبل الشعرا، أحاسيس عذراء بلون الاختلاء البكري، رجل مليء
بالعنفوان، يؤرجحها بين مرجات العشب الشديدة الخضرة التي تنمو بين الصخور،
ويفلي جسدها في عزلة الاختلاء، ونشوة التعرية، إنها الأحاسيس ذاتها التي
انتابت أمها وطفا لما مزق عريها الشيخ محمود مبارك وراح يتفرج بسكره
المجنون على تضاريسها. ويدغدغ في لهفة البدائي طيات لحمها الرخص، شعر أيوب
السارح بحدسه النسائي أن رباب الطالعة على الحياة الجديدة، تشتهي في صمت
المأخوذ فارسها، وتتوحم على مرآه، فغاص في داخله، وجرع الكأس الأولى بلا
مزج بالماء، وصبَّ الثانية، ونهل منها نهلات مليئة بالحزن والغضب والغيرة،
نهضت الأم وطفا تبعتها رباب. تناهت إلى الجميع نقنقة ديك وجلبة في الحائط
الشمالي للبيت. فهم ذلك الشيخ ابراهيم الجعفي. خرج صوب الجلبة، كان الديك
الوحيد، يتلوى في يدي رباب وتقدم السكين إلى أبيها الذي قاطعها مهدداً:


-ويلك: هذا منذور لمقام جعفر الخصيب صاحب المعجزات. نذرناه يوم قدمنا إلى هذه القرية، فكيف يفعل بنا إذا لم نوف النذرله؟!

تدخلت رباب في شراسة وقالت:

بدك تشوف أجمل من ها الحضرة. تجمعت أسرة
غويران الوطا كلها. وما عندنا شيء يليق بإطعامهم إلا ها الديك. مقام سيدنا
جعفر الخصيب يغفر لنا هذه المرة. ويؤجلها حتى يفرجها الله.


انتابت الأم وطفا عاصفة من الحنين إلى
أيام الميلادية القديمة. حينما كان الشيخ محمود مبارك يعيدهم ويغمرهم
بالحلاوة النفيشة والدبس، ويصحب معه الديوك لذبحها، وطبخها مع هريسة
الحنطة. وتلمظت كأنها تشرق تلك المرقة، رغم بعد السنين، في ولع حزين،
وتتملى الشبق في عيني الشيخ محمود والاشتهاء الكاسح، وهو يحدق بين
مرتسماتها ويتلظى حالماً. عصف بها إحساس من الحنو، أدركت أن ابنتها تتوخى
أن تقدم أغلى ما لديها إلى فارسها المرجو وهتفت:


-سأسنبل في حواكير
المشائخ، وأجمع ثمن ديك آخر نوفيه للمقام. قريضة. يا بنتي، ذكرتني بحوادث
مضت، انشحنت في ضلوعي، إتكل على الله يا شيخ ابراهيم، واذبح ها الديك.


تمتم الأب كلمات غير مسموعة وقرأ الفاتحة
وجهر: سبحان من حَلَّلك للذبح وانقضَّ على الديك المربى، وقطع رأسه برهافة
حد السكين التي يشحذها دوماً /بالسلاط/ الحجري القاسي، نهض غيلان ابنه،
وجمع الحطوبات التي احتطبها من غابة الجبل والتي ليست وقفاً لأحد المقامين،
أما الشجر الوقف فلا يجرؤ أحد من الجرود على قطعه إلا في الأعياد الرسمية.
اشتعلت النار في ظل السنديانة الهرمة، انكشفت في أجلى معانيها، واستبانت
تعابير حزينة في وجه الدكتور الأخضر العربي وتراقصت ألسنة النار المتقدة
فوق ضفائر /رباب الشقراء/ واحمر الخدان تحت وهج الجمرات. شعر أيوب السارح
بعد الكوبين من العرق بأنه أمام إلهة النار في عريها الأسطوري. لم يدر
لماذا تألقت في قحف رأسه خضراء مبارك يوم كانت ترتدي الثوب البنفسجي في عيد
الرابع، وترقص بيد ابن عمها يوسف مبارك وقد وهجتها شمس الربيع، بأنشودة
السحر والغواية، والتهب جسدها اشتهاء. تصاعدت رائحة الشواء، مع رقصات ظلال
النار، ووُضِعت ألفية العرق وانفتحت سدادتها الفلينية، فوق السكملة الخشبية
التي اشترتها وطفا يوم عرسها، وجلس الضيوف حولها، وجلبت سحاب السمراء ذات
الجدائل الغجرية، صحون الزيتون المصمود، والسلق الجبلي المرشوش بعصارة
السماق، أمسك أيوب السارح الكوب الخشبي المملوء بالعرق ونهض واقفاً وقد
استبانت فوق ملامحه مرتسمات الأسى وانفعالات مضطربة تحت رماد أحاسيس ملتاعة
وجأر:


-كأسك يا دكتور.
هذا العرق ثلثه سويلم الدرويش عدة مرات وينقي تينه من المساطح في القرى
الساحلية ويأتي صافياً كدفقات الينبوع في المغارة العليا. ولا أفهم لماذا
يحرّمه الله في كتابه الكريم، ما دام الصديق الوفي للمحزونين والفقراء،
وأنيساً للأغراب في غربتهم وشقائهم، وما دامت المشيئة الإلهية تبشر به
للصالحين أنهار من خمر لذة للشاربين.


جفل ابراهيم الجعفي من هذه التجديفات التي يسوقها أيوب السارح وانتابه غيظ مكبوت وردّ قائلاً:

-يظهر أنك سكرت يا
أيوب قبل الأوان وأنهار الخمر التي يعنيها الله، في تصوري، ليست الخمرة
الكثيفة المسكرة التي تقصدها أنت بل اللذائذ الروحية النابعة من معرفة الله
وتطبيق مفهوم التقوى والإيمان، وما الجنات الموعودة والحور العين، وأنهار
من العسل المصفى والغلمان كاللؤلؤ المنثور، والظلال الأبدية، الأرموز لتلك
اللذائذ الروحية، أليس كذلك، برأيك، يا دكتور؟!...


غاص الدكتور الأخضر العربي في الأشياء
التي تحيط به، والتقط بحواسه تهويمات الصيف، والليل المفعم بالموحيات،
والنار المشتعلة تحت السنديانة الضخمة وعبق بخور في الغضارة العتيقة
المسندة إلى حوش القبة، وتكشيرة الفناء البادية بين القبور المكلسة،
والجدائل المتراقصة على كتف رباب وتضَوُّغ زهرات برية في الأعالي كان
يحملها نسيم الصبا الشرقي، على جناح أثيري شفاف إلى الأنوف، وصياح بنات
آوىبين الأوجار السحيقة، وانبثاق عصفور ليلي بزقزقته المفاجئة بين ظلال
الغابة ونسيس الحطوبات في النار، وزغردات الجمرات في الإثفية الطينية، لملم
من نسيج تأملاته، وارتشف رشفات مسموعة من العرق المثلث، وتمزمز به حتى
تشرَّب مزاقه في هدوء وأردف مجيباً عن سؤال الأب:


-في قديم الزمان
نزلت حكمة تقول قليل من الخمر يفرح قلب الإنسان. ولكن نزعات السكرة الدائمة
في العمق الإنساني لم تكتف بالقليل، وبهذا القليل امتلأت الأديرة بدنان
الخمرة المعتقة، وعمَّتْ الخمارات المكان ولم تحرمها في البدء الحكمة
القرآنية ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى. ولم يتوازن الإنسان في شربها حتى
صارت تشرب عقله وصحوته، ونزل التحريم الكلي لها، غير أن في الخمرة المتوازن
شربها، قابلية صوفية للامتداد، ونشوة للخروج من كثافة الجسد الصفيق، وغسل
عتبات الحس، صوب رفَّات الشعر والفن والإلهام.


تنحنح نبيل السواحلي، أشعل سيجارة من بَصَّات النار، ومج منها مجات سريعة، وحملق في جنبات الليل، وأضاف قائلاً:

- لا تعنيني
التأويلات، وطبيعة الخمرة الكامنة وراء هذا العالم، وجوهرية اللذائذ تحت
ظلال الجنات المجهولة، التي لم يأت أحد منها ويخبرنا، نحن الأحياء، عن مكان
وجودها، ولا عن زمن حصولها، بل جئنا لنزرع بذوراً انقلابية، قد لا نجد
حصادها، وملة الجرود -سكان الجرد- الجبلي، أكثر الملل هرستها الطاحونة،
عاشت في الجحيم الأرضي، وهي أحوج إلى أن تستعيد أبسط حقوقها، وتنال شيئاً
من العدالة ولن يكون ذلك إلا بحزب ثوري، فالعبيد عبر العالم نهضوا من
مراقدهم، ليحطموا أنيار العبودية، وما زال الجرود قابعين في أحراش عزلتهم
وإنزوائهم وتكلساتهم الدهرية.


سقط نيزك فوق الجبل، شق الليل بشظاياه،
انتشرت ساحة مضيئة فوق القمة، خيمت سكينة جبلية بين الشعاب الغابشة وأحدثت
كلمات /نبيل السواحلي/ صدى في الأعماق الراكدة. فرقع الدكتور الأخضر العربي
أصابعه الأنيقة، محدثاً صوتاً لزجاً، وهمس كمن يخاطب في العراء روح
التاريخ:


-كل رسالة أرضية أو
سماوية، تحتاج إلى أجنَّة جديدة وأناس يحتضنونها، معنى وجودهم يستخلص منها
يُرخصون كل شيء في سبيلها. تبتدئ من نقطة، وتمتد من بذرة، تتكاثر أجنتها،
انتصرت الدعوة الإسلامية كما تعرفون بالإيمان والعطاء، والصبر على تحمل
العذابات، والهجرة الطويلة والفداء بالنفس والنفيس من أجل الرسالة. وامتدت
المسيحية بالتلاميذ الذين سافروا بكلمات المخلص إلى آفاق الأرض، وتحملوا
أنياب الأسود الضارية في ساحات روما، وهؤلاء المريدون الأوائل قدوة
فلنستخلص العِبَر من مسار حياتهم ومواقفهم.


أبرقت خاطرة في ذهن أيوب السارح، لف
سيجارتين من علبته الصدئة وضع الأولى بين شفتي ابراهيم الجعفي والثانية
دسها بين شفتيه وصرخ بصوت جلاه السكر:


الرسالات أفهمها جيداً، التاريخ العربي
الإسلامي أحفظ مساره عن ظهر قلبي. كل الرسالات تظهر إنسانية وجميلة، ولكن
محنتها في التطبيق. الهوة التي انحفرت في ذهني هي البعد بين المبادئ
والممارسة، فلنبدأ بمن لهم مصلحة بالثورة، والانقلاب على الواقع من الحارة
التحتانية آل الغشيم -آل الصوان. وآل برقروق. وعائلة سويلم الدرويش إنهم
طبقة الفقراء الرثة.


سرح في ضفائر شعر رباب غرق في تقاطيع
وجهها الأسيل، تأججت في قلبه حسرة المفارقة بين السنين. هي في ميعة العمر،
وهو في كهولة تنزلق رويداً إلى شيخوخة. هبط إلى درجات نفسه الداخلية-
هامساً في أعماقه [آه.. آه. لو أعود شاباً في العشرين لما فاتني اقتناصها،
واعتصار الحمرة التي في وجنتيها) ونهض كمن به مسٌّ ولوَّح بيديه قائلاً:


تعشوا سآتيكم بسويلم الدرويش، وولديه
حميدان، ونبهان وابنتيه وحيدة، وجميلة اللتين تجيدان الغناء على دلعونا،
ويا أم الزلف والفروقات الشعبية، لأن هذا الليل له ما بعده.


غاب وراء العتمة، وعقاله يترنح، وشملته
البيضاء، ترفرف وسط الغاب الجبلي، سافر الدكتور بعينيه اللامعتين وراء شبح
أيوب السارح، وهو يغيب خلف الليل ونادى في حنو:


بمثل هؤلاء الناس المندفعين حماسة
وممارسة، تصل الرسالات والأحزاب إلى حرق المراحل وتحقيق أهدافها. تكمن
العفوية والإندفاعية البدئية، والقدرة على التحرك في عروق هؤلاء، إنهم
يتجاوزون أصحاب الفكر والنظريات المجردة، يحيلون الأفكار إلى واقع والنظرية
إلى ممارسة. كم انحني احتراماً إلى شخوصهم المجربة وأقدامهم اللصيقة
بالتراب الشعبي. سمعت بحكايا عنهم شبيهة بالأساطير، ممن بلغوا الستين،
كانوا يهجمون على دبابات فرنسا بسيوفهم ورشاشاتهم، فيهم تتجلى الحياة بأعمق
خصوبتها، وتصارع الموت لتنتصر عليه بالموت في سبيل قيمها.


شدت الأم وطفا من تجاعيد فستانها المكشكش
الطويل، وأنزلت من انحناءاته اللاصقة حتى لا تبين المرتسمات، ويستشف الرائي
الخط المنزلق، وقالت في ترحيب:


- أهلاً وسهلاً بكم. هل وقت العشا. سيطوّل أيوب حتى يرجع، بدنا نترك له الحصة من الديك حتى يعود مع جيراننا، خايفة أن يبرد اللحم.

انهمك الجميع بالطعام، ولم يعد مسموعاً
إلا صوت التلمظ وقرقعة الخواشيق في المتبل، وكأنهم في مأتم، وتعرف وطفا
الأم طبيعة نبيل السواحلي بأنه لا يحب الكلام على الطعام، وينطوي على ذاته
حينما تتحرك أضراسه. غير أن الدكتور الأخضر العربي شعر بثقل هذا المأتم
الطعامي وأراد أن يبدد من هذا التلمظ، وقال:


- في الغرب لا
يعرفون هذا المتبل من الحنطة، ولا أكلة البرغل مع العدس. المطبخ الشرقي
مشهور في الغرب، بأنه يتفنن بصنع الطعام والإمتلاء البطني بأطيب المأكولات،
لعل بطوننا نمت على حساب أدمغتنا، وملذاتنا اقتصرت على الكثيف الجسدي
منها، فمتع الموسيقا، ورؤية التماثيل وما فيها من الرهافة والجمال،
واللوحات التصويرية في المتاحف وعلى الجدران، والرقص الرشيق، والأجواء
الناعسة، كلها مناخات تخلق متعاً خاصة، نحن في الشرق نلوب على أكلة دسمة
ونسعى إلى تكرارها.


انتفض نبيل السواحلي كمن به مسٌّ، وازدرد اللقمة في انفعالية مفاجئة ووقف عن الطعام وقال:

-ليس من يفتش عن
اللقمة، ليسكت جوع معدته، ولا يكاد يجد ما يقيم أوده، كمن يتقلب في
نُعَميَات الحياة، وينوع ملذاته الطعامية. قبل أن نفتش عن الملذات الجمالية
والمتع العليا، لا بد لنا أن نملأ بطوننا وحاجاتنا الجسدية، إن من يجوع
ويعرى، ويلهث وراء اللقمة لا يقدر أن يتسامى إلى صعيد المتع العليا، هؤلاء
سكان الجرد والجبال مثل شاخص، ودليل واقعي على البؤس التاريخي والجوع
الطويل والحرمان والقهر.


غابت نجيمات السماء الصيفية، جفلت طيور
ليلية، حطت بجانب الغابة النازلة صوب قبة نجم الريحان، أصدت أصوات بشرية
تهدودر من مغارة سويلم الدرويش وتشق حجاب الليل، أطل أيوب السارح وهو يحمل
ألفية عرق، وينجرُّ خلفه الأب سويلم وولداه حميدان ونبهان وابنتاه وحيدة
وجميلة. كانوا يسيرون في عجلة. وضع أيوب السارح الألفية بجانب السكملة، ملأ
الكأس منها وقال رافعاً وملوحاً:


-بصحتكم جميعاً.
جئتكم بالدراويش. هؤلاء لهم المصلحة الحقيقية بالثورة. كل الرسالات
والتغيرات الثورية، قامت على أكتافهم، الطبيعة والفقر والزمن الراكد،
والطعام الواحد المكرور الذي لا يتبدل طوال السنين لولا البرغل وسدونات
التين والهواء النقي، وخبز التنور، وصفاء الماء في الينابيع لتفسخت أجسادهم
ضموراً ولانقرضت، لولا المغارة الرحيمة المطينة بسواعدهم لأكلهم الوكف
وزمهرير الأعالي، ولكن أجسادهم تكيفت مع المناخ القاسي، وقُدَّت من الصخر.
شمرْ عن ساعديك - يا حميدان- وشوّفهم كفك البازلتية التي أكلت من الصخرة
شقفة، ارفعي منديلك عن جمتك يا وحيدة لتبرز في وجهك سمات الجبل وصلابته،
وأنت يا نبهان -أرنا عضلات يدك المفتوحة كعروق السنديان في قمة الشعرا،
وانت يا سويلم الدرويش يا أبا الهول، افرد شملتك، تنبعث الليالي والعتمات
وعواء الذئاب، وغمغمات الجبال، مهزومة أمام صرامة وجهك، وانت يا جميلة يا
سوسنة البراري ارفعي صوتك [على دلعونا، على دلعونا وعلى أم الزلف] يخجل
الوتر ويتحسر القصب، وتطرب العصافير، ويترنح شيخ الجبل سكراً، وتنسكب من
الليل أرغنات مهوّمة.


وانفتل ناهضاً، والكأس بيديه، وصبَّها في
جوفه، وكأنه يريد أن يغيِّب صحوة الغيرة في تضاريسه النفسية، ويستقطب
الجميع بحركاته. أشار إلى أسرة سويلم الدرويش ليشاركوا في مرسح الدبكة
ويفتتحوه. ابتدأت الحلقة، أمسك بمنديل صغير أحمر. يلوح به حول النار،
ويترنح في رقصته وأومأ إلى غيلان وسحاب الجعفي، ليندفعا إلى الرقص والغناء،
وأغفل رباب قصداً، لأنه كان أمام نارين، نار الغيرة التي تكوي أعصابه،
والنار المشتعلة في الخارج. وراح يدور حولها في حلقة. تنحنح قليلاً، سكب
كوب العرق بجوفه دفعة واحدة، ارتسمت أشعة ندية في عينيه. غنى في توجع
المرتحل الذي أكله الحنين إلى أعشاب زمن عتيق، اخضوضر بالمجد أحقاباً
مزهرة، واعتراه الذبول بعد ذلك، وقد حفظ هذه الأغنية ولا يعلم من ألفها:






لتعُيدنَّ ما مضى


لنُحيينَّ ما اندثر

ليذاعنَّ في الدنا


عن حبيب لنا خبر


امتلك غيلان الجعفي جنون عجيب، ركض صوب الصندوق الخشبي
وأخرج شبابته القصبية، وحمل الربابة ووترها المرهف، ورماهما في حضن والده،
راح ينفخ ويجرِّح وجه الليل بأنات القصب. وزاحمته الربابة ببحاتها التي
تحرك عروق الحجر، وتجاوبت الأصداء وترنحت روح الطبيعة، واصطفقت أوراق شجرة
البلوط، بجانب القبة وتمايلت وريقات الغارة الشديدة الخضرة، وأصدت الشعاب
الجبلية بالأغاني والفروقات الشعبية، ورفعت جميلة صوتها السحري في آماد
العتمة الموحية وأحس الضيفان أن في هذه الأغاني الحزينة تكمن مأساة عريضة
في العقل الجمعي لسكان الجرود. خرجت الأم وطفا عن مهابتها، وارتعشت
أقدامها، تذكرت طبول آل مبارك في أفراحهم، وتجاوبت مع الفروقات التي كان
أيوب السارح يغير من خواتمها:






لياليا يا ليا


يا ليلى الثوروبا

أنت الدلال بيلبق لك


وأنا العذاب عليا


تغلغلت سكرة طاغية في كيان الجميع. انصهر الدكتور الأخضر
العربي ونبيل السواحلي في أتون هذه الحميا الشعبية، وشاركا في الرقص
والغناء والتصفيق، وزالت الفوارق بين الحاضرين، وتآخت بحات الربابة التي
كانيديرها الأب ابراهيم الجعفي مع رعشات القصب وثقوبه الحرّى مع انسيابات
صوت جميلة وا نصبت في ثالوث إيقاعي منسجم امتد طويلاً في الذاكرات التي غدت
تجتره وتعيده، وتفتحت ألف زهرة كانت مغمضة في قفار العيش الرتيبي وأزهرت
نجمة الصبح كفلقة الرمان فوق عين الغار وترنم الدكتور الأخضر العربي بصوته
الأجش، وقد غمرته النشوة.






أرى موطنَ الأحرار قد طال ليلُه


غدا يشرقُ الصبحانِ البعثُ والفجر.



رددت الرعوش وذرا جبال الشعرا، وغابات
الملزق الغربي، ودواوير نهر السبع والمزارات المقدسة، تراجيع تلك الليلة
المشهودة وكتبت على صفحة الزمن الراكد، أن الجرود نهضوا ليسحقوا أنيار
العزلة والقهر عن أعناقهم. وأن الإيمان بالرسالة الجديدة، يقاس بمقدار ما
يضحى من أجلها، وأن البذور قد طمرت في التراب الملائم للنماء، حيث تتوالد
من رشيمها حركة الحياة، وقدرت تأثيرات هذه الليلة أن تنقش في العمق بدايات
دوائر تنداح وتتسع حتى تلامس أقصى الجهات، فتوهجت أزاهير الحزن والفقر
وانطلقت من عقالها، الكوابيس والأحلام المجهضة، وامتزجت لهفة الغيرة،
ومواويل الجنس بإشراقات الأمل الآتي من شرفات الزمن الجديد، في معزوفة،
إنسانية متفائلة يتساوى فيها الناس جميعاً، بعيداً عن شرانق التعصب، والحقد
والعقد الصفراء، معبرة عن حقيقة مضيئة، تصفع الجمود والتكلس وهي أن
الإنسان في زمن ما هو غير الإنسان في زمن آخر وأن الصيرورة تمسح الناس
والأشياء.




الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://starlook.alafdal.net
 
خرائب الأزمنة الفصل 8
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خرائب الأزمنة الفصل 14
» خرائب الأزمنة الفصل 15
» خرائب الأزمنة الفصل 16
»  خرائب الأزمنة الفصل 1
» خرائب الأزمنة الفصل 18

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ستار لوك :: الروايات-
انتقل الى: