منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ستار لوك


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خرائب الأزمنة الفصل 9

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
BaSmA iBrIz

BaSmA iBrIz


انثى عدد المساهمات : 1387
تاريخ التسجيل : 04/03/2011
العمر : 25
الموقع : /https://starlook.alafdal.net

خرائب الأزمنة الفصل  9 Empty
مُساهمةموضوع: خرائب الأزمنة الفصل 9   خرائب الأزمنة الفصل  9 Emptyالخميس 23 يونيو 2011, 14:27


الفصل التاسع

ضامة المغارة‏

دارت عجلة
الزمن تحمل في دورانها رسوم مصائر إنسانية جديدة انسحبت على عين الغار تلك
القرية المنسية بين سفوح جبال الشعرا بزواج أيوب السارح من جميلة بنت سويلم
الدرويش ذات الصوت الساحر الذي اجتذبه منذ السهرة، وذات السمرة الغامقة
والعينين المغرقتين بالسواد، اللتين تنقلانك إلى أعرابيات الصحارى
الجنوبية، والفطرية الأولى، تزوجها بسرعة، واشترى أرضاً صغيرة بجانب
المغارة من أغوات العثمانية، وبنى بيتاً من حجر الدفش سماه ضامة المغارة
فوق إطلالة مشرفة على جانبي نهر السبع، على مقربة من دوَّار المجنونة ذلك
الدُّوار الذي كونته مساقط النهر السيلي الآتي من منحنيات الجبال وسلاسلها.
كانت غابة من شجر العزر والصنوبر البري، تحيط من الجهة الشمالية بالضامة،
وقد ساعد آل الدرويش صهرهم الجديد بنقل المدود الخشبية، وبنشر بعض الأشجار
الصنوبرية، وتقشيرها وتعمير هذه الضامة وسقفها بالبلان والطيون والأشواك
الكثيفة، وتطيينها بتراب خاص يتحمل الوكف والبلل، وتحوير جدرانها بالطين
الأبيض الناصع. وأثمر الجهد الذي بذله الدكتور الأخضر العربي بافتتاح مدرسة
ابتدائية في الحارة التحتانية، مؤلفة من غرفة واحدة واسعة، نقلت إليها
المقاعد وعين فيها نبيل السواحلي معلماً ومرشداً ثورياً في الخفاء وقد تزوج
من رباب الجعفي وبنى غرفة متسطيلة بجانب مزار الشيخ نجم الريحان وملاصقة
لبيت عمه، أما غيلان الجعفي فراح يمضي أيامه بالذهاب إلى قرية العثمانية
لينهل من العلم ويتزود بالمعارف من تلك الإعدادية التي تقع وسط تلك القرية.
كانت جدر سود بلون التقاليد والجمود، تحاصره حينما كان يبث أفكار ثورية في
أذهان زملائه حتى أنه أشبع ضرباً من أهل القرية مرات عدة، وهدد بالطرد،
ولكن المدرس فجر الشريف بشخصيته القوية، وثقافته الرحبة، وإيمانه الصميمي
بروح التغيير والثورة على الواقع وعناكبه، كان يحميه من الطرد والاضطهاد،
ويدافع عنه، ويحمله المنشورات ليوزعها سراً في قرية عين الغار وبين
المرابعين الفقراء الذين يلتصقون بتراب الكدح والظلم. كان جسر الكفري هو
مفترق الطريق بين عالمين متباينين كم تدرأ من لزبات المطر وزخاته، تحت
قناطر هذا الجسر!؟ كم أصغى إلى هدير السيل في الأغوار البعيدة! لم يدر
لماذا كان هدير السيل يرتبط في ذهنه بهدير الثورات وفصول رواية الفولاذ
سقيناه وغوركي بخواطره وطفولته وصيحات الثوار في سهوب آسيا، وأميركا
اللاتينية، ومئات النشرات المليئة بروح التمرد، وتصوير أحزان المنبوذين في
الأرض، وإشراقات الدعوة إلى الغد الوحدوي، كم تصور نفسه يطير ليحتضن الأرض
الملوعة، وينسف التخوم المصطنعة بين الأقطار العربية، وينصهر في مد
الإنسانية الرحبة. ما أهول انفعالات المدرس فجر الشريف وهو يشرح التاريخ
العربي القديم، وغروب الأندلس، وملوك الطوائف، وعتمة عصور الانحدار
والطغيان وسلاطين آل عثمان، وغدر الاستعمار الغربي، وخطورة الاستعمار
الاستيطاني في فلسطين، وطرد الشعب صاحب الحق من بياراته وأرضه، وتراثه،
ورميه تحت الخيام. كانت كلماته مسكونة بالوجع التاريخي والدفء الثوري،
تتفجر في عنف وثقة، تبصُّ عيناه العسليتان في مؤق عينيه الغارقتين في
تأملات بعيدة، ويبرز أنف أقنى كأنه قدّ من صخر، وتنسحب شفتان رقيقتان على
فم تمسحه إرادة بوذية مصممة، وتشمخ جبهته العالية، صوب أبعاد فكرية بعيدة،
رست فوقها تجاعيد، موَّجتها معاناة وعراك مع الزمن واندلقت في وجهه سمرة
مشوبة، بحمرة خفيفة، وانسرب إلى بعض شعره الخفيف شيب فضي، يؤذن برحيل الشاب
قبل أوانه، وكان تعبير جليل ينفر من ملامحه ويمسك كل من يراه بيد خفية. في
عصر يوم خريفي استدعى غيلان الجعفي إلى زيارته في العلية الجنوبية من قرية
العثمانية المطلة على جنبات عين الغار وعلى الدرج الحائل اللون التقى
برابعة أخت أستاذه. الشعر ليلي الانسياب، العينان صحراويتان مُغرقتان في
سواد المقل والوجه يميل إلى السمرة الخمرية، تنساب فيه نعومة الأماسي
الرخية في غوطة دمشق، القد ممتلئ أميل إلى القصر ينتهي بعجيزة ذات شكل
إجاصي. شفتان ممتلئتان على عكس أخيها، كرزيتان تحملان إلى الرائي الشوق
الملح إلى التقبيل. كانت معالم الإغراء فيها أكثر من الجمال. شعر غيلان
الجعفي، عندما جلس فوق الخوان الخشبي بأن حدساً خفياً غدا يتبرعم في
أعماقه، دون أن يجدله تفسيراً، يوحي بأن هذه الفتاة الغريبة عنه، سيكون لها
فيما بعد دور في حياته الآتية، اقترب الأستاذ فجر الشريف من غيلان الجعفي
ودسَّ في يده رزمة سرية من المنشورات، وهمس في خفوت:‏


-إنها
منشورات ممنوعة، تصور المآسي التي يلاقيها الرفاق في سجون الشيشكلي، ينبغي
أن توزع سراً في الليل، بعيداً عن عيون السلطة من حركة التحرير. جاءتني
البارحة من دمشق، تلتهب سطورها بتصوير واقعة جسر فكتوريا حينما تصدى
المناضلون إلى دبابات السلطة بإيمانهم وصدورهم العامرة، وسحق بعضهم تحت
جنازيرها، وبعضهم ارتمى في نهر بردى. ولن تكون وحدك في تأدية هذه المهمة،
وسيأتي حسام حاتم ويوزعها في العثمانية وأنت توزعها في عين الغار وجهات
الجرود وإذا اصطادتك السلطة فالزم الصمت حتى الموت.‏


أحس غيلان
الجعفي بأن مخاضاً جديداً يتقمَّصه، وإنساناً آخر يتعلمق في كيانه. ذهب زمن
الأقوال والأحلام، وانكشفت التجربة وتبدى: عري الواقع، يزحف إلى جسده
الغض، سيقدم على المخاطرة، ويحمل المنشورات السرية ورأى لون المخاطرة
الجديدة والقفز في مهب الأقدار.‏


من أين أبدأ بالتوزيع؟‏

نفض الأستاذ فجر الشريف رماد غليونه، وألهب الشعلة فيه وقال:‏

-أبداً من
ضامة أيوب السارح وأمسح قرية عين الغار وألصق منشوراتك فوق عتبات بيوت
الدفش عند الحارة التحتانية وتنبه إلى جواسيس السلطة، وعيونهم في حارة
أقربائك بدر الجعفي وأولاده فالأغوات والسلطة يسيران في خط واحد، كما
وصلتني الأخبار، وسأوكل لغيرك ممن مارسوا هذه المهمات سابقاً بنشرها في
قرية العثمانية.‏


تحسس غيلان
الجعفي المنشورات في صدره، وانطلق لا يلوي على شيء قافزاً الدرج، سارحاً
في الأزقة الترابية عبر قرية العثمانية، هابطاً الرعوش، والتلات المؤدية
إلى عين الغار عابراً الجسر الكفري الذي يفصل بين عالمي التوجس والطمأنينة،
كانت زمزمات الظهيرة الخريفية تخيم على تلك المنحدرات الغربية التي تبرز
في منخفضاتها كروم التين والعنب في أواخر موسمها، رائحة الأوراق الصفر
الذابلة قبل أوانها، تعبق في العراء الساخن. ثمرات تين راجعي، ثقبتها
الزنابير، وراحت تمتص عسلها في نهم، عروق بنفسجية بلون الموت تتمثل بشكل
أشباح تومئ بخاطرة الزوال. أراد ضحيان يبرق في المرورى والهوات الفاغرة.
تحت التينة التي ما زالت ثمارها، تتأخر في النضج، لمح أمون بنت الغشيم تفلي
جسدها وقد انحسر فخذاها السمراوان عن لهيب صحراوي، تعتصر نهديها في حركة
مجنونة، وتتقلب كأنها تشوى على تنور جبلي، راح يراقبها في دهشة، إنها المرة
الأولى التي يرى فيها امرأة، تجري طقوسها الجنسية الخاصة بها. جسد طري في
ريعان تفتحه، ينزف شهوة وعرقاً، أنات بلون الجؤار البقري تتصاعد من فجواته
الزنخة، رائحة وحشية كرائحة قطيع الماعز وقت اللقاح، تفعم البرية الخريفية،
اعتصارات بكر، تنفذ من خلاياها، عينان فاحمتان، تتفتحان فيرى من كثب
دموعاً متوهجة لا تنسكب وتغمضان مع الاعتصار، فيتمثل كائناً بوهيمياً،
يعتصر نفسه شهوات جمرية. شعر بحزن عاصف، يسري في عروقه، وبتنميل في أعضائه
لم يفهم سببهما، كان مبهوراً بمنظر امتزجت فيه الوحشة والقدسية معاً، حبس
غيلان الجعفي أنفاسه وهو يتأمل هذا الاعتصار الفطري والتقلب الجمري، حتى
نهايتهما، وانفراج الأزمة عن ابتسامة غبيطة، وتهالك على رعشات خاصة، رحلت
معها إلى دنيا الانتشاء، وهبطت بعدها أمون الغشيم إلى مهاوي الإنطفاء
والندم. رفعت لبيستها المرقعة الطويلة، جمعت فخذيها أسدلت الستار على عريها
عادت إلى حالها الطبيعية، نهضت لترى ما حدث لعنزاتها، تلاقت عيناها بعيني
غيلان الجعفي انتابتها هزة المباغتة، سرحت في الظهيرة الخريفية، التقطت من
الآفاق الساخنة صورة عنزاتها، وهي تركع تحت السنديانة العتيقة في قيلولة
هادئة، وابتدرت مسائلة:‏


ولك صار لك
زمان هوني؟! خلف شجرة التين الراجعي، هل شفت شي؟ شو حال صدرك منتفخ؟ كنت
بقرية العثمانية، سمعت عنك أنك عما تقرأ في الإعدادية، ولا تمر بحارة
التحتانية.‏


ابتسم /غيلان الجعفي/ ابتسامة مواربة، حملق في لبيستها المرقعة المفروكة وقال:‏

-منذ كنت
تمارسين عادتك الجميلة، تعتصرين جسدك الفائر، المنتفخ مثل حبات قمحكم،
حينما ينسلق في الدست، وتتفتح فلقتاها لقد بهرتيني بتموجاتك على العشب
الناعم، وكدت تحرقينني بأنفاسك الحرى، وتلهبينني بدوامة جسدك التنوري، لو
لا حلم الله. أما صدري المنتفخ فلا شأن لك به، وسأمر دوماً إلى حارتكم، بعد
الآن.‏


خيمت سكينة
خرسا، حتى طفت فوقها زمزمات نحلات برية، وتصاعدت رائحة مريضة من مروري
تجمعت فيها مياه آسنة، واختلطت مع قيلولة العنزات ووساخة جلودها، وامتزجت
مع نزيف وريقات متساقطة عن أماتها، بان حزن مقيت فوق ملامح أمون وندت عنها
آهة انحصار وقالت في براءة:‏


-لك عندما
يتفتح جسدي المراهق، يفور مثل نار السلقة ويحاصرني شيء بطعم اللهب، وما
بعرف شو بدي سوي فيه؟! وحق قبة نجم الريحان، إذا بقي هيك فاير، بدي إرميه
من ها الحافة الغربية، وأتخلص من ها النار المشتعلة فيه.‏


هرولت صوب
السنديانة التي تقيل تحتها عنزاتها، ممزقة حجب صمت الظهيرة الخريفية ومحدثة
أصداء شبيهة بوقع حجرة في بركة راكدة. بينما كان غيلان الجعفي يعرج على
البراري والطلعات الحادة التي تؤدي إلى ضامة المغارة عند أيوب السارح،
ليلقي ما بجعبته من المنشورات الممنوعة. حينما كانت مخابيط الغسالات تقرقع
في دواوير النهر، وشجيرات الديس بثمراتها العنابية وأشواكها، تغطي مع الدغل
البري، أشباح نسوة يغتسلن في العراء بعيداً عن الأعين المترصدة بين جفنات
الغار، كان دخان نحيل يتصاعد من هذه الأغوار، ويرسم غمامات نارنجية في أفق
ساخن، ويلامس في ارتفاعه مغارة سويلم الدرويش ويذهب أباديد في شعاب جبلية.
كانت مساقط النهر، وهو في انحداره، تحدث غمغمات مختنفة، تذوب مع بقبقات
كلكة بني سويلم، التي يثلث بها عرق التين والعنب بعيداً عن أعين الدرك
ورائحة اليانسون المسكرة تفحم الخياشم بعبق متفرد، وتختلط مع رائحة النسوة
والصابون الممتزج مع أوراق الغار ورغوته النافذة، سطع في مخيلة غيلان
الجعفي حلم عجائبي وانتابه إحساس بقدرته على الطيران، وأن بعداً ثالثاً
للأشياء راح يتكوَّن من خلال هذه اللوحات التي فجرها الخريف في كيان الناس،
طقوساً عارية، فيها تكمن البدئية الأولى. تلامح عن قرب أيوب السارح على
باب المغارة يعشف الحشائش الشوكية، ويزيل ذلك الدغل المتراكم على بابها،
خشية تسلل الحيات المبرقشة إلى ضامته في الليالي الساجية يوم يختلي بامرأته
جميلة بنت سويلم التي لم يرو ظمأها الفطري إلى المناطحة ولم يسكت أناتها
الضارعة إلى الإشباع، حتى كان يغلق فمها أحياناً حتى لا يسمع أهلها تلك
التأوهات المجنونة التي تتصاعد من عرزال الضامة وهدير الخشب المنهوك تحت
آلية الغريزة، وتداخل الأجساد.‏


ولما أبصر
غيلان الجعفي آتياً، توقف عن العشف، وطرح القالوشة أرضاً، وفتح ذراعيه
مرحباً، وأدرك من انتفاخ الصدر أن منشورات مدسوسة هناك، من خلال ممارسته
الطويلة، تلمسها في فرح ظاهر وهتف قائلاً:‏


-أرجو أن
تكون قد حملت معك ما يغطي حارات عين الغار وجهات الجرود، سأعلقها ليلاً فوق
عتبات حارة المشائخ، وأجعل بيت بدر الجعفي عميل السلطة، وزلمة أغوات قرية
العثمانية، يرتجفون من حروفها، سأقرأها لعائلات الحارة التحتانية، بيت
الغشيم، والصَّوان، وبرقروق، وما يبقى منها، إلى بيوت الجرود القبلية حتى
غويران الوطا واسمع بها قبة الشيخ نجم الريحان ومقام جعفر الخصيب.‏


أمسك
بالجعبة، دخل الضامة، نشر محتواها من المنشورات في الزاوية الغابشة تحت
العرزال، وتقرَّاها كمن يتحسس كائنات حية تهتز تحت أنامله، وتستحيل فيها
الحروف نبضات قلب، ونداءات المسجونين من رفاقه تقفز بين السطور، وتتمثل
أمامه. حملق به غيلان الجعفي كمن يراه أول مرة. التهمت نظراته تلك التضاريس
المحفورة في وجهه، المعبرة عن عراك أيوب السارح مع الأيام وهمس قائلاً:‏


- أوصاني
الأستاذ فخر الشريف أن أوزعها في صمت وأكون حذراً من عيون الجواسيس
الموالين للدكتاتور، وهي منشورات تضج بتظاهرات المناضلين ومواقف العين التي
تقابل المحزز، وانكشافها سيؤدي بنا وبالمنظمة في هذه الديرة، ويؤخر خطوات
النضال في هذه المرحلة العصيبة. دسّ أيوب السارح الجعبة في كومة القش تحت
العرزال الخشبي الذي سواه بيديه وجمع قوائمه من أشجار الحور النامية في
دوار المجنونة على حوافي النهر السيلي، ونصبه في زاوية الضامة، ورفعه عن
الأرض حتى لا يسري البلل إلى الفرشة الوحيدة التي ينام عليها مع امرأته
ونادى قائلاً:‏


- صهرك
نبيل السواحلي غائب عن الساحة في هذه الأيام. ومنذ تزوج أختك المصونة، ضعفت
حماسته في العمل النضالي في قرية غويران الوطا، كان أشبه بجمرة متوقدة
وثورة على الطغاة، يا حسرتي عليه، لما شاف أختك ها المباركة، نسي
هاالشيمانة أعني الرسالة ومتطلباتها.‏


شعر غيلان
الجعفي بأن في كلمات أيوب السارح حقداً دفيناً على صهره يعود إلى زمن زواج
أخته رباب حيث انقطع عن زيارة بيتهم بجانب المقبرة، حتى أنه يمر بجانب قبة
الشيخ نجم الريحان، ولا يدير وجهه صوبهم، ويغمز دوماً من شخصية صهره المعلم
نبيل السواحلي أمام الجرود في القرية التحتانية، كأن خفاشاً أسود سكن في
قلبه، وغيَّر من سلوكه مع أسرته، وخفت تلك العلاقة الحميمة التي كان يظهرها
رفيقة له، وأجابه في حنو بائن:‏


- رسالتنا
أكبر من وجودنا كأفراد، هكذا علَّمنا أستاذنا فجر الشريف وينبغي أن نصهر
أنفسنا في مسارها، وننسى أهواءنا وأحقادنا الخاصة، من أجل امتدادها، وفيضها
الكبير.‏


تسربت إلى
أنفه رائحة العرق المثلث في المغارة والتقطت عيناه محتويات الضامة. العرزال
الخشبي بقوائمه الأربع، الصندوق المزركش الذي يحتوي على ثياب، جميلة بنت
سويلم. الخواشيق الخشبية المتناثرة في أرضية الضامة، مواعين وقصعة فخارية
لعجن الطحين، بعض الصحون الزجاجية الأثرية التي احتفظ بها أيوب السارح
كذكرى عن رحيله في أقاليم المكان، دمجانة عرق منسوج ظاهرها بأغصان الريحان
الذي ينبت وراء تلك المسالك الجبلية، وتحت قنطرة الجسر الكفري وأرجل ذبابات
مسحوقة في جدار الضامة المطلي بالحوار، ووجاق طيني في الزاوية وقد أسودت
أعاليه وبدت فوق تعرشاته المخروطية، رسوم أصابع نحيلة، طبعت فوقه عندما كان
الطين طرياً. رغم اتساع هذه الضامة في داخلها. لم يدر لماذا أطلق عليها
هذا الاسم، وهي أشبه ببقية بيوت الدفش في عين الغار ولا تتباين عنها إلا
بارتفاعها فوق صخرة ضخمة، حتى تبدو من بعيد أنها منحوتة برعش الجبل، كطير
الرخ الخرافي، يموج بين جزر الواق الواق المنشورة في طيات ألف ليلة وليلة.
كانت الشمس تنحدر نحو المغيب، وتتراقص أشعتها فوق قمم الشعرا، ومساقط النهر
السيلي تهدر في الآفاق، وتمتزج مع أغنيات الخريف وبراكين الشمس البنفسجية،
تطبع الكون بأحاسيس غروبية راحلة. صرخ أيوب السارح كمن به مس من هذه
الأحاسيس:‏


-الليل
قادم، بعد رحيل الشمس، وتحت قمرة تشرين المتفتحة. سنؤدي المهمة. نبدأ
بالصاق المنشورات فوق البيوت المنفردة البعيدة، ونمسح الحارة التحتانية،
وهناك محمود الغشيم، ونصير الصوَّان حامد برقروق ولفيف من المرابعين
المتحمسين الذين لهم مصلحة بالثورة، وسنأخذ رأي صهرك العزيز نبيل السواحلي
بمسار المهمة لعله يفيدنا، بممارساته السابقة التي يتبجح بها. وما تبقى
سنلصقه على عتبات بيوت /قرية العثمانية/ القريبة من الجسر.‏


ارتسم ظل
جميلة سويلم فوق باب الضامة الغربي، أمسكت بالعتبة، بان على وجهها توجس
مريب، انفتحت عيناها في جحوظ مذعور. تألق في مؤق عينيها المغرقتين بالسواد
وميض ناحل، وارتعشت شفتاها ارتعاشة طائر مجروح، وغمغمت بكلمات ملؤها الحزن
والخوف:‏


-ولك
أيوب!؟ ما اكتفيت من المشاكل، وحق قبة الشيخ نجم الريحان إذا مسكوك ها
المرة، الذباب الأزرق ما عارف وين أنت؟ ما خليت واحة في صحراء العرب، حتى
تلول اليمن الوعرة، وجبال لبنان العالية، إلا وكان لك فيها قناق وذكر.
كسّرت القنون جناحك وما تبت. وبعد عدة شهور، بيصير عندك ولد: ما ترحم حملي
في بطني: سمعت كل الحديث وتوزيع المنشورات الله يسترك. هاالمرة بتكون
القاضية.‏


أزاح أيوب السارح
القش عن الجعبة، وأبعد امرأته عن باب الضامة، ونزل صوب حارات الجرود،
وبقلب مفعم بالإيمان، دار سبع دورات حول قبة الشيخ نجم الريحان كما يفعل
الناس حول الكعبة، وبصحبته غيلان الجعفي الذي حاول أن لا يراه أبواه، وكانت
ليلة تشرينية والقمر في تمامه، يرسل أشعته من جبال سامقة، ويتعربش كقنديل
ساطع الضياء فوق الصخور، وبين فجوات النهر السيلي، ويلتمع فوق مقام الشيخ
جعفر الخصيب وحارة المشائخ الغافية في أحضان الشعاب الجنوبية، المطلية
بحوَّار أبيض ساطع، وينحدر شعاعه فوق أعلى قبة الشيخ نجم الريحان، وتنسل
أضواؤه إلى سطوح الحارة التحتانية وبين دواوير النهر المظللة بغابة الحورو
السنديان البري، وتحت قنطرة الجسر الكفري الراكع تحت أقدام حواكير الحارة
التحتانية، كانت ظلال أربعة من رفاق، سكنت فيهم روح أمتهم، يتقاسمون
المنشورات على بعضهم بعضاً، ليوزعوها، ويلصقوها على عتبات البيوت، مجازفين
بوجودهم، لعلهم يحركون سكونية التاريخ الجامد، يكتبون على صفحاته الجديدة
ميلاد حركة حضارية، ويرسمون صبحاً مشرقاً للوحدة العربية وللعدالة
الاجتماعية والمساواة في ليالي الظلم والقهر والتفريق الطائفي والعرقي،
وكوابيس الاضطهاد الطويلة، وخنق الحرية، والمحاسبة على لهاث الكلمة
المتمردة.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://starlook.alafdal.net
 
خرائب الأزمنة الفصل 9
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خرائب الأزمنة الفصل 10
» خرائب الأزمنة الفصل 11
» خرائب الأزمنة الفصل 12
» خرائب الأزمنة الفصل 13
» خرائب الأزمنة الفصل 14

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ستار لوك :: الروايات-
انتقل الى: