منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ستار لوك


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خرائب الأزمنة الفصل 10

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
BaSmA iBrIz

BaSmA iBrIz


انثى عدد المساهمات : 1387
تاريخ التسجيل : 04/03/2011
العمر : 25
الموقع : /https://starlook.alafdal.net

خرائب الأزمنة الفصل  10 Empty
مُساهمةموضوع: خرائب الأزمنة الفصل 10   خرائب الأزمنة الفصل  10 Emptyالخميس 23 يونيو 2011, 14:28



الفصل العاشر

الاعتقال والسجون‏

أشعة باهتة
تنسرب من غرفة التحقيق في سجن الشيخ حسن في دمشق القديمة، ظلال مرتجفة
تتراقص فوق تلك الجدران المريضة التي تختنق في زواياها النفوس البشرية،
ظلامية عصور الترك تجوس بين ثناياها، وتنشر رائحة الانسحاق والطغيان
الأصفر. ثلاثة شخوص محصورة في وسطها. طاولة ملطخة بآثار الدم، ينتفخ خلفها
ضابط التحقيق، كبالون أسود، تبرق عيناه الحالكتان بالسواد، همجية وتلمظاً
إلى الفريسة، كرباج جلدي غليظ مصبوغة أطرافه بالدم، يربض كأفعوان مرقش تحت
أكداس الحشائش اليابسة ينتظر أن ينقض، بلاط ناصل تكسرت على جوانبه الأيام
وتخبطات المساجين ورصات الفلقات على الأرجل المرفوعة والمربوطة بحبال خشنة
وعصى قاسية، لانتزاع الاعترافات قسراً. غيلان الجعفي شعر بأنه في منزلق
موحل، يخونه جسده المُدمَّى الذي لم يجرب من قبل تلك الممارسات الوحشية
التي ينقصف بها جسده الواهي، كدمات زرق ونزيف جلدي، آثار تعذيب منطبعة فوق
خلاياه. كان ينظر إلى معلميه الواقفين بحذائه، نبيل السواحلي، وفجر الشريف،
اللذين تبديا من هول التعذيب كفزاعات الفلاحين المنصوبة في جوبات مزروعة،
تخيف القادمين إليها، وجه صهره ملطوم بحفر اللكمات، جفناه متورمان حتى لا
يرى بصيص العينين إلا بجهد ممعن، شعر معروك من الشد والضرب، شفتان ترابيتان
اختلط بهما الدم المخثر ونفثات النيكوتين. شخص أستاذه فجر الشريف يبدو
كغصن مقصوف عن شجرته الأم، غير أن التماعاً متحدياً ظل، يشرق في عينيه،
وينعكس على جبهته التي انطبعت فوقها آثار لطمات ومسامير أحذية عسكرية، بشكل
دائري مفجوع. نهض الضابط العقيد شوكت، خرج من خلف الطاولة، تناول الكرباج
المبرقش، فرقعه في الهواء فرقعات مريبة، استبانت كرشه المندلقة، أبرق في
عينيه غضب لئيم، كشر عن شدقيه، برزت أسانه الذئبية المعوجَّة في فكيه،
انسربت من كهوف بعيدة عفاريت القرون الخالية، وراحت تنطلق من قمقمها، تحت
الأرض بأرجلها، وتعتصر مخيلة غيلان الجعفي برجوم من الماضي، صار جسده ينزف،
يبعد عنه، يئن خارج شعوره كان كلما ينهال عليه الضرب، يغوص في تجربة
مريعة، ويتناهى إليه وقع المخابيط الليلية، في دواوير نهر السبع، لشياطين
سود لها أذناب طويلة، تسكن في مغاور النهر وفي مرشاته، تحدث عنها الساكنون
في لحف الجبال، وتوهمها سويلم الدرويش وهي تركض عارية في مهمه الليل
القمري، وتنعب كالبوم، تحمل المخابيط الخشبية القاسية، وتقرع صفحة الماء
المنزوي وراء الصخور الدهرية كما يقرع الجسد بالكرباج. غاب وقع المخابيط في
مخيلة غيلان الجعفي. استقر الكرباج على الطاولة وقد تلطخ بدم الفريسة، غدا
ضابط التحقيق شوكت يلهث تعباً، وقد أفرغ شحنة غضبه في تلك الشخوص الثلاثة
البادية أمامه، كان كذئب الفلا، شبع من النهش، وأقعى ليجتر، ويريح أنيابه
المعوجة، أخرج سيجارة من علبة أمريكية أنيقة، وأشعلها بقداحة ذهبية، ونفث
نفثات نارنجية تصاعدت دوَّامات في فراغ الغرفة. استنقع الزمن في مخاضة
موحلة، ارتد الثلاثة إلى ذاكراتهم يحفرون فيها، ويمضغون بأعينهم حركات
الضابط وتجشؤاته المتكررة، وتلمظه بسحائب الدخان، وإخراجه من فمه، كآلة
بخارية صدئة، تنفث من ورائها دخانها المزنجر، ضرب الطاولة ضربات جنونية،
وجأر بصوته الأجش:‏


-عال،
عال؟! مناضلون آخر زمان، سأجعل جلودكم تتقشر وعتمة السراديب تأكلكم،
والزنزانات المنفردة تزحف إليكم، وتلسعكم بأفاعيها الخفية، ستتعفنون هناك،
جزاء منشوراتكم الداعية إلى التمرد على سلطة الزعيم العادل، سألاحق أذنابكم
أيوب السارح وحميدان الدرويش في عين الغار وحسام حاتم في قرية العثمانية
زبانية الحزب الثوري المراهق.‏


انبثقت
غبطة مفاجئة في مخيلة غيلان الجعفي وقفزت إلى وعيه صورة أيوب السارح يتخفى
كعادته في معاصي الشعرا، يختبئ في الكهوف وينام في الأحراش، ويتقرى كل يوم
مبيتاً جديداً بين جفنات الأدغال البرية، يوغل بعيداً في عروق الأرض، يقطف
ثمار الغابات ودوام البلوط، وثمرات الديس الكرزية، وينتقي الحشائش المفيدة،
ويجعلها طعاماً له تقيه غوائل الجوع، إنه كما عرفه، أبو الأهوال والدروب
المقفرة، ودوَّاس الليالي، المظلمة التي تتقطر العتمة من كثافتها، ويهيم في
لجتها عواء الذئاب الضارية. لاحظ الضابط شوكت العاتي ظل ابتسامة متشفية
تتزيا فوق شفتي غيلان الجعفي فهيج فيه سورة الغضب وأمسك الكرباج وراح
يفرقعه في الهواء ليخيفه ويهمي بضربات مبرحة فوق جسم الفتى الناحل وزعق كمن
خالطه الجنون قائلاً:‏


-حتى أنت
أيها الفتى الضامر، الصغير في تجربته، تتجرأ علي، تنغرز عيناك في وجهي،
تظهر ظل ابتسامة، سأسحقك تحت ضربات كرباجي كما تسحق ذبابة كريهة.‏


شعر غيلان
الجعفي بأن جسده يبعد عنه، وأحاسيسه تغيب في خلاء مريض، والعالم الخارجي
يدور ويدور، والغرفة دوَّامة مريعة والسقف يطير في كابوس عفريتي، والشخصان
العزيزان على قلبه، يغيبان في ضبابة كثيفة، وأخيراً وقع مغشياً عليه فوق
البلاط الحائل اللون، والدم ينز من فمه وجروحه. استفاق على ماء بارد يبلل
رأسه، ويتسرب إلى بنطاله وقميصه، تداعى إليه صوت فجر الشريف يدوي تحت
فرقعات الكرباج وسياطه، وينهر الضابط الجلاد صارخاً:‏


-أجسامنا
أوعيتنا الوحيدة التي تتملكوننا من خلالها، تعذبوننا بواسطتها، تشوهون
معالمها بأساليبكم الهمجية، ولكن أفكارنا ورسالتنا وتصوراتنا للوجود،
يستعصي عليكم تغييرها بهذه السهولة. كل عذابات التاريخ لم تمت وهج الرسالات
وبزوغ صيحاتها، ومواقف أصحابها. لن تزيدونا إلا إصراراً على الشهادة في
سبيل مبادئنا وأهدافنا العليا.‏


اقتيد إلى
خارج الغرفة، سمع وقع أصداء تندرج في أقبية الشيخ حسن، نبق من خلف باب
حديدي ظل عملاق متوحش، تقدم محيياً الضابط شوكت العاتي وقال:‏


-سيدي، هل تسمح لي، أن أتشفى من هذا المارق، وأدوس رقبته؟‏

أومأ ضابط
التحقيق إيماءة آمرة، تناول الرقيب الملقب بالوحش السوط من فوق الطاولة،
وبصق بيده ليزداد حماسة، وانصب بضرباته على المعلم نبيل السواحلي الذي تحمل
أكثر مما كان يتصوره جلادوه، فماضيه ملئ بالمفارقات والتشريد بعد سلخ
اللواء في أواخر الثلاثينيات، كل هذه الظواهر تفاعلت لتجعل من جسده شجرة
شربين تعبث بتلك الضربات المريعة التي كان ينزلها على الجسد الصامد. راح
الدم يسيل من وجه المعلم، وينسرب إلى صدره، ولم ينبس بأي تأوه أو استرحام.
شعر غيلان الجعفي بأن صهره يتعملق في ناظره، ويستحيل شجرة شديدة الصلابة
تتكسر على جذوعها أنواء الزمن، وصدمات الأنذال، وتعنو أمام صمودها أفانين
التعذيب. سمر ناظريه في الضابط المحقق والدم يصبغ ثيابه وقميصه الذي تمزق
عند الظهر، وهتف وهو رافع الرأس في تحد بائن:‏


-تفوه
عليكم أيها الجلادون! لن تطفئوا الشمس بأفواهكم وأساليبكم ولن تنالوا من
أفكارنا، وسيأتي الزمن المشهود، تطلع من جروحنا ألف نجمة، ويولد من مواقفنا
صباح شديد السطوع. دروب الأنبياء والمصلحين الثوار وعشاق الحرية، كلها
دوماً معمدة بالدم والعطاء حتى الموت.‏


تأثيرات
الكلمات، دبّت كالسحر في أوصال غيلان الجعفي وعصف به خجل مقيت من انهيار
جسده الضامر أمام ضابط التحقيق، نهض واقفاً في تحد غريب، وبزغت فوق معالم
وجهه صورة نسر يريد أن ينقض.‏


وضعت في
معصم المعلم نبيل السواحلي سلسلة من الحديد، ورفس من الخلف رفسات ضارية من
حذاء الرقيب وحشي ذي النضوات الحديدية كان ينطوي بها جسد صهره الذي وقف على
عتبة الباب، ورنا إلى غيلان الجعفي وصرخ بملء فيه:‏


-لا تخف يا
غيلان إن المستقبل لنا، ثوار هذا العصر هم أنبياؤه. إذا خرجت قبلي من هذا
السجن، فاهدي سلامي إلى اختك رباب والعائلة جمعاء، وأطلب منها المغفرة لما
سببت لها من آلام وإحراجات.‏


غاب خلف
الجدران السميكة التي عشش في زواياها عنكبوت القِدَم، يجرجره عتاة هذا
العصر، وبقي غيلان الجعفي واقفاً وقد دبّت به حياة جديدة، وانكسرت صدفة
الخوف في داخله، واستحال عينا شرسة تقابل المخرز، وتقضم بأجفانها غير
المرتعشة الضابط المحقق شوكت العاتي. مسح الدم المخثر عن جوانب فمه وجبهته،
بأطراف شملته الممزقة التي كان يعتمر بها ويلف بها وجهه، استنقع الزمن،
حاول الضابط أن يهيمن على ضحيته، ويرهب الفتى الماثل أمامه لأنه كان أصغر
المعتقلين سناً وطراوة. راح يتبختر أمامه في بوطه العسكري، ويفرقع كرباجه
في الفراغ ولكن لا جدوى، غاص غيلان الجعفي بعيداً عن الجو الكريه الذي يحيط
بجسده ، وسافر إلى الماضي وإلى قعر طفولته ومراهقته، فتبدت له المغارة في
غويران الوطا، المطر يهمي، طوفان نوحي غمر بيوت الدفش، وكفت السقوف
الطينية، تساقط الشحوار "السخام" الغرابي من البلان والطيون اللذين
أسحمتهما أدخنة الوجاق والحطوبات الرطبة وحشرجات الجدة بريبهان واحتضارها
المأساوي، وخبطات رجلها في أرض المغارة أمام شبح الموت، وهبوب نار الغرائز
بين فخذي هلوك الغاوية ونيتها أن ترطب رحمها بعناق كلبي مع مرعوش الخليط في
العراء المطري، لتتناغم معزوفة الغرائز وانتفاضتها مع وقع المطر خارج
المغارة، في الوقت الذي كانت الجدة تفارق روحها العالم ويغوص جسدها،
المنطفئ في برودة الموت. لم يفهم لماذا انقذفت هذه الخاطرة، وتلك الحادثة
إلى سطوح شعوره. كم كان يتباهى بها مرعوش الخليط ويضيف عليها قائلاً [خرجت
روح جدتي من جسدها في الوقت نفسه كنت أمتلك هلوك... النارية وأحلق مع
رعشاتها المنسوجة بدبق الغريزة] تلامح الضابط النظرات المسمرة في سقف
الغرفة، والشرود الذي يعتصر غيلان الجعفي فالتهب غضبه، واقترب منه، وصفعه
بكل قوة على خديه، فترنح يمنة ويسرة، ولم يهو إلى الأرض، ولبطه لبطات
قاسية، ودفعه خارج الغرفة، أمسكه اثنان من الزبانية، اقتاداه إلى الممر
فالسرداب الهابط إلى الزنزانات المقيتة، والكوى الضيقة وفتحا له باباً
حديدياً، ورمياه كنفايات في العتمة الخاوية. نفذت إلى خياشمه روائح مريضة،
وصوت فئران تقضقض أشياء نخرة، وبراغيث سود تقفز، وتعضه في العتمة، غرق في
كوابيس لا يعلم مداها، أحس بأن جسده، من شدة التعب والمعاناة، يوغل بعيداً
عنه في صحراء لا نهاية لامتدادها، تخيم عليها ظلمة لا نجوم فيها، تحوّم
حوله الخفافيش، وتدوِّم في الصمت المرجوم، بأجنحتها الجلدية الشديدة
السواد، وتلمس في عمق هذه الصحراء اللامتناهية من الوحشة، رؤى الشيخ جعفر
الخصيب الذي رأته وحيدة سويلم أثناء تطوافها في البرية، وقد شفاها من
جنونها، غدا يبرق شخصه المقدس في قحف رأسه ويشعّ بدفقات من الضياء والتسويغ
لمعنى الحياة، ويهمس في أذنه كلمات كبيرة محفوظة [ظلمات الوحشية البشرية
مهما قست، وطغيان العالم مهما امتد سحيقاً كلها، مجتمعة لا تطفئ شعلة
الإيمان الحق، ولا تميت وقدة الروح الشفيفة التي تخترق الحجب الكثيفة،
وتطري المسافات المكانية والزمانية].‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://starlook.alafdal.net
 
خرائب الأزمنة الفصل 10
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خرائب الأزمنة الفصل 9
» خرائب الأزمنة الفصل 11
» خرائب الأزمنة الفصل 12
» خرائب الأزمنة الفصل 13
» خرائب الأزمنة الفصل 14

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ستار لوك :: الروايات-
انتقل الى: