منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ستار لوك


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خرائب الأزمنة الفصل 12

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
BaSmA iBrIz

BaSmA iBrIz


انثى عدد المساهمات : 1387
تاريخ التسجيل : 04/03/2011
العمر : 25
الموقع : /https://starlook.alafdal.net

خرائب الأزمنة الفصل  12 Empty
مُساهمةموضوع: خرائب الأزمنة الفصل 12   خرائب الأزمنة الفصل  12 Emptyالخميس 23 يونيو 2011, 14:30


الفصل الثاني عشر

رفات حب جديد‏

كرونوس
الزمن وحش أسطوري يأكل أبناءه، يغيبهم في أحشائه، وتدور مصائرهم في حلقاته
الدائرية، ولعبته الأبدية مازالت مستمرة، تطول أعمار الجبال والبحار
والصحارى والأشياء الصَّماء، ويحدث التغيير بطيئاً فيها، ويقصر عمر
الإنسان، فيبدو ومضات في عمر تلك الصوامت، والمظاهر الطبيعية، وتتراكض
الأيام سريعاً في حوش الأغراب، وتتمخض رباب الجعفي بوليد اسمته غفار صورة
مصغرة عن جده إبراهيم الجعفي، كان فرح سكان الحوش بقدومه عميقاً، وتتكدَّس
آثار الفصول ورتابتها، ومرئيات نهر الخابور، في مخيلات أولئك الساكنين
النازحين من مرابعهم إلى شعاب الجزيرة، وسهوبها الرحبة. وقادت العشرة
الطويلة، والرنوات المكرورة، إلى أن انحفر حب خفي في قلبي الشابين
المتجاورين، ونمت غرسة الحب في صمت الليالي الساجية والتحديقات المتأملة في
العيون الملتمعة، تنسج الأحلام وتبلورات الخيالات حول جسد الآخر، وخفاياه!
وأصبحت شجرة الصفصاف الباكي، معزوفة دائمة، يصيخان بمسمعيهما إليها
وتتعانق أيديهما من وراء الجدار الفاصل بين الشقتين، وصارت غمغمات الخابور
أرغناً ناطقاً بالعشق، ينفخ في الصفاف، فيصدى قلباهما بارتعاشات غامضة،
وهيمات رفيفة، كأنها أجنحة فراشة قزحية الألوان. كانت الأحلام تختبئ في
عروقهما، نزوعاً إلى زواج مقبل ينبغي أن لا يكدَّر، بهبات الجنس المفاجئة،
والتهام كل الخوابي المليئة بعسل الحلم، قبل الأوان، وأن يؤجل ذلك إلى
الاقتران الرسمي، وخاصة أن التجربة المرة التي وصل فيها النصل مغمده مع
خضراء مبارك لا يني ينزف صوراً ورفات أشواق مجنونة، تهمي في مخيلته وتسقط
فوارات لهيب في قلبه، وتسافر مروج عينيها الخضراوين في شرايينه نزوعاً إلى
المستحيل الذي لا يتحقق. كان كلما ارتحل في ضفاف الخابور عند المغيب،
واستظل بأفياء أجماته المتكاثفة، ورنا إلى شمس النهار، تطرح في الفيافي
الشاسعة، غلائلها الشفقية، وترشق الغروب ببحيرات نبيذية فتشكل لوحات
شاعرية، قفزت إلى ذاكرته غويران الوطا ومكاديس البيادر والغابة المتناثرة
على أقدام السفح، وخرير الينبوع المختبئ خلف الصنوبرات الضخمة، وبنفسجات
ماوراء الصخور، المتفتحة في استيحاء. وخضراء مبارك في وشاحها العنابي، ترسم
شفقاً في خطواتها المتهادية، وسمرتها الوحشية، وشفتيها اللتين تومئان
بالاعتصار، وشموخها الغريب الذي يتمنى الرائي أن يعفِّره في إغماضة الجنس،
ويجعل الجسد المغرور الجامح، المتفتح من جميع نواحيه، يركن إلى الترويض،
تحت لمسات الحب الوانية. كانت رباب أخته، تدرك عمق الدّوامة التي يتردى
بها، والقلق المبهم الذي يترشح من مرتسمات وجهه، فتدعي أنها بحاجة إلى
مشوار غروبي على ضفاف الخابور الجنوبية، وتصحب معها رابعة الشريف وأخاها
الذي تعصف به رياح داخلية، وتحملهما ابنها الصغير غفار وتنتبذ مكاناً قصياً
عنهما، بحجة أنها تريد أن تحوش الأعشاب البرية التي تؤكل، القريصة
والخبيزة، في فصل الربيع، وبقايا البطاطا والثمار التي نسيها زارعوها، في
فصل القيظ، وكان الوقت خريفاً وتحت خميلة من أشجار الحور والصفصاف المحاذية
للنهر، اعشوشبت مرجة صغيرة في قلب الخريف، بلهاث الخابور، وكانت الوريقات
الصفر تتساقط عن أماتها في وقع غريب، يثير حرائق من المشاعر، ويلهب الأجنة
الراقدة في القلوب، بيقظة فكرة الرحيل، وامتزاجها باقتناص الحياة قبل
الزوال. كان نهمٌ مجنون، بركاني الامتداد يمور، في أعماق غيلان الجعفي
حينما يحتضن بكل حواسه روح الخريف، وتتفتح بواباته الشعورية كلها، على
رائحته التي تحمل إليه مذاق الاغتصاب، للأشياء الراحلة. كانت رغبة هائلة،
لا يعلم سببها، تكتسحه، ليفترس جسد رابعة الشريف، ويتأرجح فوق برازخها،
التي كانت تفصح عن سخونتها، النداوة المتألقة في عينيها، والألق الساحر في
شفتيها، غير أنها أدركت بغريزتها، مايتحرك في عروقه، ومدى عمق اليقظة فيه
فابتعدت عنه خطوات، وخلعت حذاءها النسائي، ومدّت رجلها في الماء المنساب،
وراحت تبترد من روح الخريف المؤججة طعم حرائق مصلوبة بين خواطر الرحيل،
وخواطر هبات الحياة التي تتوخى التهامهما سريعاً لآخر قطرة من خمرة الخوابي
الجسدية. سرّحت ناظريها في عباب الخابور، وقالت:‏


- إنه
الخريف يرسم لوحته، بأوراقه المتساقطة، وغيومه المندوفة مثل قزعات القطن
المتفتح في سهوب الجزيرة، ورائحته الخاصة. إنه يحملني إلى غوطة دمشق، وعبق
الكروم في أواخر الصيف، وعبير الأرض المسقية تشحن القلوب بطعم لا يوصف.‏


أمسك غيلان الجعفي بقبضة من الوريقات الصفر، وسحقها بأصابعه فانبعثت خشخشة هشة، وطفا فوق سيمائه حزن ماضٍ بعيد، وهتف في عصبية:‏

- الخريف
اليوم، يسري في مخيلتي أشواقاً مجنونة إلى احتضان العالم، يهيج بي مالا
يحصى من رعشات مهلوسة، يصلبني حنيناً إلى دواوير نهر السبع، وتراجيع
المواويل البرية في جوبات غويران الوطا، ويدفعني إلى رحيل لا محدود خلف
الجزر الموهومة في المحيطات الدافئة، والتأرجح فوق شطآن جزر الكناري، مع
هيمات شعراء الرومانس، وارتشاف الصمت المتأله في ذرا النيرفانا البوذية،
أكاد أجن من اهتزاز مويجات البحيرة المدفونة في أعماقي، اعذريني يا رابعة
الشريف من هول هذا الصلب بين الحب والموت.‏


لفظ كلمة
الحب في رحمانية، سافر بعينيه إلى مرتسمات وجهها المعبر، غاص في بريق
عينيها اللامعتين، افترَّ ثغرها عن ابتسامة الاقتناص، بانت شفتاها
الكرزيتان، وأوماتا بالاعتصار، نقل ناظريه إلى أصابع رجليها المغمورتين
بنفثات الخابور الباشة فتمثلت أمامه حمامات شديدة البياض، وانحسرت الركبتان
عن نصاعة بضة في البشرة التي تتميز بنعومتها الشاميات الأصيلات المنشأ،
ونفحت في مخيلته أنسام الغوطة ودمر، ووادي بردى، وبدت رابعة الشريف في
بلوزتها البنفسجية، وشعرها الليلي المنساب، كحوريات نوفالس التي تقرأها في
عوالمه الشعرية.‏


انحنى
فوقها في لهفة الإنسان الأول إلى أنثاه، وراح يمتص كل تفتحها الخارجي،
ويعزف على شفتيها أنشودة التناغم والتفتح، ويتلمس جسمها الملفوف، فندت عنها
آهات آتيات من الغابات الأولى:‏


- اعتصرني،
ياحبيبي- قبل أن تميت فكرة الرحيل نداءات جسدي، وتطفئ روح الخريف سراجي
المشتعل في ثنايا عروقي، اشتويت على حلمك طويلاً، غنيت مع عرائس "موسه"
وغزليات العفة مع الشريف الرضي، وتهت مع قصص ابن أبي ربيعة ونعمياته، كنت
متردداً في حبك لي، كأن شراكاً أنثوياً اصطادك، وهرب بلا عودة، وتركك تتخبط
في أحابيله.‏


شعر غيلان
الجعفي، في العبارة الأخيرة بطاسة من الماء البارد تندلق فوقه، سمع ضحكات
خضراء مبارك ترنُّ خلفه، انقطع حبله في منتصف البئر. سمر ناظريه فوق عباب
النهر، وفي الضفة الثانية، رأى طيفها يُبحر صوب جنوب الرَّد، وعينيها
المرجيتين تثقبان المكان، وشالها الشفقي يرسم دوائر موهومة، يلوّح بخاطرة
الوداع. خشي من تصدع في كيانه، غمرته برودة وغثيان، استحال جسد رابعة
الشريف الذي كان منذ فترة يسحره، شيئاً راحلاً لا يعنيه كثيراً، وانفنى في
انفعالاته الداخلية، وراح يبكي في صمت، كطفل فاجأته العاصفة وحده على دروب
مقفرة، لم يكتنه خفايا ذلك السلوك، حملقت به رابعة الشريف مندهشة، نهضت
إليه، تتمسح به، تمرر أصابعها الناعمة فوق نقرته، تداعب خصلات شعره
الباقية، تترشف بشفتيها الدموع المنسكبة فوق خده، وانحسر فستانها عن فخذين
غضتين، لعله يستأنس بزبدهما المتألق، ولكن الصدود كان بائناً، فنهرته في
حنو، وساءلته متلهفة:‏


- أي ساحرة
تسكن في داخلك؟ ما الذي حدث لك؟ ملامح وجهك ترميني في متاهة مفزعة، ينزف
منك خوف مبهم، كضحية مسلوبة من إرادتها، تطرح فوق مجمرة وثنية.‏


حملق في
العباب من جديد، وتداعت إليه صور المقبرة، وغمغمت أجراس غويران الوطا،
وهمهمت سيول المطر في سدونات التين والبرغل، وعنابر الطحين، في بيوت الدفش،
وتناهت من بحيرة الماضي المصخطب دقات الطبول وتواقيع المزامير في ليلة
زواج خضراء مبارك من ابن عمها، وسرى في حلق غيلان الجعفي طعم الدفلي،
وارتعشت شفتاه ارتعاشاً قلبياً وأجاب قائلاً:‏


- شيء من
قيعان الماضي، وفجائعه، ارتطم في السطح من شعوري وانفتحت بوَّابات كامنة،
وأمسكت في خناقي فزاعات الدروب، وأغوال واقع بلون الحنظل، وارتسمت فوق
العباب النهري، أشياء عزيزة حتى الكره، تجلّى فيها شفق غارب، وعبق المروج
الخضر، وطعم الحلم الذي يهرب مثل السراب البعيد، ولا يرجع..‏


افتر ثغر رابعة الشريف عن ابتسامة موحية، وعاودت تمرير كفها وراء رقبته، وهمست في خفوت حلو:‏

- من أجل
كوابيس الأعماق، وتراجيع الماضي، وإفرازات السراديب المنفردة، وعتمة السجون
الراسبة، وغدر الآخرين، تقتل روح تلك اللحظات التي نسمو بها، فوق تفاهات
العيش الرتيب إلى احتضان رفيع قد لا يعود التماعه ثانية بالوتائر ذاتها.
أية هشاشة في كيانك لا أفهمها؟! أجهضت الحلم في ذروة ارتعاشه.‏


انفلتت كظبية
مذعورة بين دغل الضفة، وراحت تغرف الماء بكفها، وتغسل وجهها، وتبترد من
الحمى التي كانت تعوم في شرايينها، وتغلق فتحات عروقها التي كانت مستجيبة
للاحتضان، انتابت غيلان الجعفي ندامة محرقة، حاول أن يقترب منها، ويراودها
في لمساته، لكنها نفرت منه، أمسك بيدها في رفق، فأبعدتها في قسوة، تناهى
إليهما بكاء الطفل غفار، وهدهدات أمه رباب وقد حملت على ظهرها حملاً خفيفاً
من بقايا ثمار الصيف، وخضرواته، وانصبَّ الجميع في الدروب الذاهبة إلى حوش
الأغراب الذي تنسجم فيه تحولات الفصول، مع تحولات الذات الإنسانية التي لا
تقطع نهر الحياة مرتين، بل يرسم الزمن الجهم على صفحاته المرهفة، ولادات
ومخاضات في الصيرورة، بعيدة الأغوار، والتنوعات.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://starlook.alafdal.net
 
خرائب الأزمنة الفصل 12
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خرائب الأزمنة الفصل 14
» خرائب الأزمنة الفصل 15
» خرائب الأزمنة الفصل 16
»  خرائب الأزمنة الفصل 1
» خرائب الأزمنة الفصل 18

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ستار لوك :: الروايات-
انتقل الى: