منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ستار لوك


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خرائب الأزمنة الفصل 13

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
BaSmA iBrIz

BaSmA iBrIz


انثى عدد المساهمات : 1387
تاريخ التسجيل : 04/03/2011
العمر : 25
الموقع : /https://starlook.alafdal.net

خرائب الأزمنة الفصل  13 Empty
مُساهمةموضوع: خرائب الأزمنة الفصل 13   خرائب الأزمنة الفصل  13 Emptyالخميس 23 يونيو 2011, 14:31

الفصل الثالث عشر

مخاضات جديدة‏

أجنة الوعي العربي، راحت تتوالد، رعشات الماضي التليد، أيام الزهو في الفجر الصحراوي الأول، انسابت تحفزاً صوب العودة إلى التاريخ من جديد، بعد عتمات عصور الانحدار. المتأمل للأحداث التي كانت تطفو على سطح الوطن العربي، آنئذ، يظنُّ أن معجزة تتبرعم في العمق، وتهز الوجدان، على صحوة قومية، تمسح ظلامية القرون، والتقوقع في حلزونية الركود، هبت ممارسة الصحو، بقيام الجمهورية العربية المتحدة، بين القطرين مصر وسورية وامتدت الفرحة إلى الذات العربية، وأصدت فجاج الجزيرة الفسيحة، بتباشير العودة إلى التاريخ، أحس فجر الشريف، ورفاقه بأنهم يولدون ولادة جديدة من رحم أمتهم، وغنّى الخابور أغنيات الخصب، وتمايلت ضفافه الخضيرة بالنماء، وأنبث ربيع قبل أوانه في الإنسان والطبيعة، أقيمت المراسح البدوية، وانثالت الأغنيات المعبرة عن الفرح الحقيقي، والحنين إلى البطولة الأولى التي افتقدها العرب منذ عصور النكوص، وتناغم الحبيبان رابعة الشريف، وغيلان الجعفي مع هذه المخاضات، فانسابت أحلام تدمج الذاكرة بالرغبة، وتهيج راكد الجذور بقدوم الربيعين، وتكنست عفونة المعاناة والأشباح من مخيلة غيلان الجعفي، وانتابه شعور بالتحليق، فوق فزّاعات الماضي، وأدغال اللاشعور، وانصبَّ مع خطيبته رابعة الشريف في منسرح هذا السطوع من الغبطة، فوضع خاتمه في إصبعها اليمنى، بعد أن جرت حفلة متواضعة في بيت أخيها فجر الشريف الذي توَّج تلك الأيام السعيدة بتلك الخطوبة، واحتضنت أعشاب الخابور جسدي الخطيبين، تفجرت في عروقهما أحاسيس غامرة، بأن الدهر سكت بفجائعه عنهما فترة، وكان الزمن عصراً، حين اقتربت رابعة الشريف من الضفة اليسرى، ونزعت حذاءها البني الذي اشتراه لها من سوق القامشلي، كانت ترتدي فستاناً ناري اللون، أهداه إليها في حفل الخطوبة، وقد اشتراه من تاجر حلبي مرهف الذوق باختيار الألوان، لامست أمواه الخابور بقدمها، راحت تدغدغ المويجات المتكسرة على جذوع الحور والصفصاف، وتحدث بقبقات صوتية، نتيجة الحركات المحتكة بصفحة الماء السطحية، تناهت إلى مسمع خطيبها، كأنها وقع المخابيط فوق الثياب المختلطة بأوراق الغارة في دواوير نهر السبع، فتداعت إلى مخيلته المنفتحة عين الغار وطيوف مراهقات عاريات، يغتسلن في عراء الخريف، وأوراق السنديانة العملاقة تتساقط فوق أكتاف تلك الصبايا المحترقات بقيظ تشرين الأول، بالأوار المتلهب الصاعد من أجسادهن الفتية، شوقاً إلى فارس ذكرّي، يأتي من وراء ضباب الحلم، ممتطياً جواده الأبيض، أوغلت فيه رفات مخيلته المهتاجة إلى ينبوع الصنوبر في غويران الوطا، ويوم كانت خضراء مبارك تطعمه من رنوات عينيها، سكبات حلم غارب لم يتحقق، انقبضت ملامحه، تغيرت مرتسمات وجهه، فتسلقته أشباح ذلك الماضي المتصدع، لحظت رابعة الشريف وهي في ذروة انطلاقها تلك الكآبة الرانية، فأمسكت به، أجلسته بجانبها، واحتضنته بكلتا يديها، انحسر فستانها فوق ركبتيها، عربدت سمرة صحراوية غاوية، استبان ظل رحلة ورسوم خارطة جزيرة بدائية لم يسكنها أحد بعد، غمغمت شفتاها بارتعاشة، فار التنور على السطح، تمتمت قائلة، وهي تشد شعره بحركة عصبية مرتجفة:‏

- لن أتركك تفسد بمخيلتك، ألوهية تلك اللحظات اللامعة. لن أسمح لأغوار ماضيك، أن تزحف إلى شفق تلك الأويقات الخاصة، دعك من كوابيس الماضي، وأناته المتوجعة، سنبني مستقبلاً، بيتاً على ضفاف الخابور، أو على شطآن المتوسط، وتكون أمواجه الزرق أرغناً، أو مسكناً حانياً على الغوطة، سنوفر أحد الراتبين، بعد أن عينا معلمين في هذه المدينة، لا تخف من المجهول، واركن إلى حضني الدافئ، سأغيَّب من ذاكرتك أفعوان زمن مضى يتربص بك، سأدغدغ ليَّاليك بمتع حلوة وأجعل سرير الزوجية، يئن تحت تواقيع جسدينا المتناغمين لن تهرب مني، بعد اليوم، إلى قفار الخواء...‏

أطبقت على شفتيه، تعتصره، وتشده إلى جسدها الفائر، تتلمس مواقع الحساسية فيه. شعر بداور غريب، برفة رعشات طيرانية ترفعه فوق كثافة المادة.الرعب الكوني يختفي ويحل مكانه تقبل سخي للوجود. غويران الوطا تخلع جسدها القاتم، وتلبس ثوب الرياحين الربيعية، حتى المغارة التي لجؤوا إليها في أثناء الطوفان الشتوي، ونمت الحشائش الخضر بين شقوقها التربة، مرجة الشيخ نجم الريحان المليئة بالقبور الداكنة، تزهر فوقها نبتات المونس ذي العبق الصوفي. استرخى مسحوراً بين يديها، راح في غيبوبة متألقة، انفتحت كواه عن رفات شديدة السطوع، همس في داخله قائلاً: (يا إلهي! أين كنت تختبّئين أيّتها الرفات الحلوة، ياللروعة! من أي المخابئ السرية، نبعت؟! أيّتها الطيور الجميلات! مالي أرى وجه العالم القبيح يتوارى؟ أيتها الينابيع المكنونة كيف تدفعين أحياناً نادرة، رؤى عجائبية؟! وكيف تغمريننا بكوابيس سود، تجعل الحياة غير مقبولة، وتصيرين العيش خريفاً يحاصرنا بحرائق غاباته الملتهبة، آه آه ، ذاتي مصلوبة على رحى تيارين متناقضين، مغطس بارد تتفشى فيه روح كانون، ومغطس دافئ يستدعي انتعاشات، مفرحة، ذاتي غريبة عني، يصعب تحليلها وعقلنة نزعاتها، صعدت عبارة (يصعب تحليلها وعقلنة نزعاتها) إلى مسمع رابعة الشريف، هزته من تداعياته، أخرجته من براري داخله، وصرخت في جنون:‏

- قل لي بربك أين كنت؟ بدواوير عين الغار، أم بقفار الخريف في غويران الوطا، أم كنت تترصد الرنوات الخضر في لحف جبلكم الشعرا، إني أشفق عليك، أن تضيع جمالات تلك اللحظات اللامعة التي لا تعود.‏

أبرقت عيناها بدموع، اختلطت بهما، بقايا رعشات الاحتضان، وبروق الاختلاء والخوف القلق على هروب سعادة لا ترجع، اقتنص معاني البروق في عينيها دغدغ حلمتي نهديها النافرين، كمنقار حمامة برية. وقال:‏

- غمرتني تساؤلات عن بحيرة ذاتي الخفية، عن المغزى الذي يحاصرنا كنوع بشري، ويضيق فهمنا عن تفسيره، لماذا نحن في مرحلة من أيامنا، نتصالح فيها مع العالم، وتشرق بنا أحلام غبيطة؟! ولماذا نحن في زمن آخر، ننشحن بمرارة الحنظل، وخفافيش العتمة، وكوابيس الأشباح؟! أحقاً أن في سحيق ذواتنا مفارقات، يصعب علينا تحليلها كما سمعت؟‏

مرت بكفيها الناعمتين، وراء نقرته، غدت تدوّمه بإيقاعات لدنة، وتسمر ناظريها في القشعريرات اللذيذة التي تتزيا فوق ملامحه، وتنقلهما في غواية إلى تلك النفضات المترنحة، أغمض عينيه أمام نظراتها العارية، استرخى في قيلولة البقر الوحشي، واقتربت شفتاها من أذنه، وتمتمت:‏

- لن تفترس أغوالك المتربصة في مخيلتك طعم هذه الأويقات، سأخبزك على تنوري، وأشويك، وأخرج من قمقمك المصدوع تلك العفاريت، وأصيرك كائناً ينزو شوقاً، تتقرى جزيرتي، وتنغرس في رمضاء الرمال، سأغير من نمطية سلوكك، الحياة قصيرة جداً، والشباب مرحلة سرابية، سرعان مايغوص في شيخوخة مدمرة، الإنسان يموت حين يفقد قدرته على حوك الأحلام، سأهجيك حروفاً كما أهجّي تلاميذي الصغار في المدرسة بابا .....ماما.....‏

تداعت إليه بلا سبب مفهوم، نداءات أمه وطفا إلى أبيه الشيخ الجعفي، تتضرع إليه أن يطأها في ليالي كانون، والمطر الحزين يتساقط فوق السقف الترابي في غويران الوطا، كان العالم، وقتئذ في نظره، ينتهي عند تخوم ضيعته، ويتلاشى عند ذرا تلك الجبال، كان يجهل كل شيء عن نفضات الغريزة وروعة الدغدغات التي تنتاب الرجل حينما يختلي بامرأة، وافتر ثغره عن ابتسامة خجلة، وأمال بوجهه عنها، وهتف:‏

- انعجنت ذاكرتي، بأسطورة الخلق الأول؟ آدم في الهبطة الأولى، أكل التفاحة المحرمة، انفصل بعيداً، عن حوائه في الأرض، راحت تفتش عنه كالمهووسة، تقطع المتاهات، تجوب البراري، تحترق شوقاً إليه، ولما شارفت على مطلاته، تظاهرت بأنها زاهدة برؤياه، أسرع إليها آدم بكل قواه، ناشراً على قدميها أزاهير التياعه وحرقته، أنتن لغزٌ محير، تبدين العفة، لما تتحرقن بجمرة العناق، وتشتهين فارساً آخر في الوقت الذي، تنغمسن في أوار فعل الحب.‏

سقط في بؤبؤ عينيها المنيريتن نجم ليلي، خبَّ في أنسيهما شراع زورق هانئ في بحار دافئة، استرخت شفتاها العنابيتان كثمار أواخر الصيف التي تومئ بالاعتصار والغرابة، وغمغمت في كلمات عاتبة:‏

- تحوكون دوماً تخيلات مريضة عنا، ترسمون خيوطاً وحكايا عن غدرنا، وتُضفون حولنا ألغازاً مبهمة، لم يُضطهد كائن في التاريخ كما اضطهدنا. مسار العالم القديم مشحون بعذاباتنا، دوائر الحريم المحبوسات في ظلام التاريخ يتمتع بعريهن الرجل النافذ، اغتصاب النسوان في الزوايا، وسوقهن سبايا في الحروب الظالمة، واتهامهن دوماً، ونسج الظنون حولهن كلها شواهد على ظلمهن، وحصرهن في توابيت التابو والمحرمات.‏

زقزق عصفور صغير، ذو أجنحة ملونة فوق شجيرات الصفصاف الباكي، أزكمت أنفيهما رائحة غريبة من الجنوب، محملة بروح السهوب الشاسعة، تناهت إلى مسمعيهما أصداء قصية المنبع، امتزحت مع همهمات الخابور الغامضة، سرحت غيوم شباطية في الآفاق البعيدة، شكلت من سرحاتها في المخيلة هيئات طيور خرافية، هائلة الحجم، تطير في الجوزاء، وترسم ظلالها المرتجفة فوق الجزيرة وفيافيها، إزدادت كثافة الغيوم، انحجبت الشمس وراءها، تغير الجو في سرعة مذهلة، تبدد الصحو، ادلهمت السماء، زحفت تلك الغيوم من جهة الرقة، ارتطمت زحوفها لتكون بروقاً لامعة، يتبعها هزيم رعود أحس الخطيبان، بمذاق تلك التبرعمات المطرية، تحدث في زواج مظاهر الطبيعة وعرسها المطري، فانتابهما إحساس مجنون بأن يتناغما مع هذا العرس. شعر غيلان الجعفي بأن موجاً من الإثارة والهيجان الجنسيين، يعج في جسمه، وأن رغبة فردية تمتلكه، وأن (أموّن بنت الغشيم) بعريها الكاسح تومئ إليه من خرائب الماضي، ليطفئ لهيبها التنوري، ويتغلغل إليها. يومئذ كان يحمل المناشير المقدسة، والمهمة النضالية تكتسحه، لم يطق صبراً كأنه أراد أن ينتقم من نكوصه، آنئذ، عن الاستجابة لذلك النداء الملهوف الذي كانت ترتجيه ابنة ضيعته في الحارة التحتانية، لن يعيد هذا النكوص ثانية، توهج عرس المطر في مخيلته نزوعاً مفترساً، أن لا يؤجل متعة قد لا ترجع ذروة استجابتها، انحسر الفستان الناري، التمعت بروق سمراء، انكشفت البكورية الأولى، وطراوة النعناع البدئي، تمزقت العذرية خشعت رابعة الشريف لهذه الطقوس المغرقة في حلاوتها واستجابت لتلك السكرة، أغمضت عينيها الناعستين، لتحتفظ في نسغ ذاكرتها بخمرة تلك الدغدغات المهوَّمة التي لم تذقها من قبل، استكان الزمن، غاب العالم الخارجي، انهمر المطر، وراح يعزف بقيثارته الندية فوق الجسدين الملتصقين في ضرواة، وينسفح بين عروقهما، ظلت الطبيعة تمطر بوقع رطيب، والاحتضان الإنساني يتجاوب مع أمه الأرض، من سمفونية عميقة جداً، يجتاز فيها الحب والجسد المتفتح، نواميس التقليد والأعراف، وهمجية الانتظار، لتتلاحم الأرض والإنسان في عناق التناغم والتوحد، والامتداد الخصب.‏

***‏

قلق مأزوم تسرب إلى السراديب النفسية، وخيبة خفاشية اللون، استنقعت في صميم الاستاذ فجر الشريف، بعدما تلمس قبل غيره، بوادر انسحاق الحلم القومي، وانفصال قادم في عروق الوحدة، خريف يزحف بممارسات خاطئة، ليغيب جمالات الربيع، ويكنس وهج الأحلام، عيون زجاجية بلون الخيانة، والتلصص، غدت تراقبه، وتلاحقه في أثناء ذهابه إلىالثانوية وإيابه منها، شعور بالمحاصرة والتضييق على الشرفاء المناضلين طفا على السطح، ليحفر في الأعماق، ميلاً إلى التقيؤ والغثيان مما يحدث من تجاوزات أبناء الأقليم الجنوبي، خرائب مستقبل مفجع تخيم بصورها القاتمة على حياة الثوريين، وتفجر فيهم خوفاً غامضاً من خنجر مسموم يطعن الوحدة في الظلام. اجتمع رفاق الأمس في منتصف الليل في الحارة الغربية من الجسر حيث امتدت بيوت متواضعة لأناس مهاجرين أغراب لملمتهم الأقدار، وحلم الثراء، والفقر الأسود في قراهم النائية، إلى التوضع في هذه الأماكن التي كانت تعتبر منفية في تلك العهود. وفي بيت غيلان الجعفي المستور عن عيون جواسيس السلطة، والذي سكنه بعد إعلان زواجه من رابعة الشريف والإسراع به، خيفة أن يكون رحمها قد استجاب بكليته إلى نداء الجنس، يوم المطرة، فعلق به وليد يحمل نذير افتضاح مشؤوم، وقد اختار غيلان الجعفي وامرأته مكان هذا البيت لأنه يعانق الضفاف الغربية للخابور، ويتجاور مع مجموعة من جرود الساحل، الذين ينقصهم دفء الأمن والاستئناس في مفاوز الجزيرة الشديدة الاتساع. وكان بعضهم يدعي قرابة والده بدر الجعفي وأنهم سلالة أجداد قتلهم الأتراك، وأحرقوا جثثهم في ديس قرية التلاّت، كانت مصطبة الدار واسعة شبيهة بمصطبة بيتهم في عين الغار، تكللها حورة ذات ورق عريض، وشجرة صفصاف ذات امتدادات رحبة، تلامس بأغصانها المتهدلة سقف الغرفتين اللتين بنيتا باللبن المجفف. كانت قمرة تشرين تسبح فوق أمواه النهر المتدفق، تنعكس مرايا سرابية، وأشباحاً راقصة بين بساتين آل موري، وحول الضفاف الشرقية، وتختلط مع همهمات ليل الجزيرة المهيب. شقَّ أسداف السكينة صوت الأستاذ فجر الشريف واندلقت على جبهته الصلعاء، مرتسمات قلقة، وارتشف من فنجان القهوة المرة رشفات مسموعة وقال:‏

- حلمكم أيها المناضلون لم يؤتِ أُكُلَه، لم يترسخ في أرضية الواقع، سيحدث انفصال في قلب الوحدة، ماترونه من ممارسات خاطئة سيؤدي بهذا الحلم الذي نمنمناه في مخيلتنا صباحاً وردي السمات. عناكب الانفصال والردَّة تحوك في العتمة أنسجة سوداً، وتدفع العجلة إلى مهاوي التفتت. آن الأوان، أن أخرج من هذا المنفى، وأكون في بؤرة الأحداث، استجابوا طلبي بنقلي إلى دمشق، لنعيد تنظيم الحزب الثوري، بعد ذلك التشظي الذي حدث في صفوفه، بعيداً عن عيون مخابرات السرّاج وملاحقتهم للمناضلين.‏

اغرورقت عيناه بالدموع، قفزت سحنات رفاقه المليئة بالندوب من أعماق ذاكرته، راحت تلطم ذاته من الداخل، تزحف إليه من عتمات سجن الشيخ حسن ومنافي تدمر، تناديه لينقذها من لجج التعذيب، قلع الأظافر، رعشات الكهرباء في المناطق الشديدة الحساسية، خنقهم بالماء التفنن بأساليب متطورة لجعلهم يتصدعون نفسياً، ارتسمت على ملامحه صورة بوذي، يقدم على مجمرة كبيرة، ليحترق جسده بلهيبها، التقط نافع الديراني المعاني العميقة، لتلك التلميحات، وهو أحد المناضلين العنيدين الذين اكتووا بوحشية الاغتراب في السجون المنفردة، وواكبوا مسيرة النضال الأول وجأر بصوته الأجش:‏

- صقلنا أجسامنا رماحاً مسنونة، منذ أيام الجامعة، ومازالت قابليتنا للتحدي، كامنة في عروقنا، انغرست بذور هذه المبادئ في صميمي لما كنت طالباً في جامعة دمشق، الحرارة والحماسة والاندفاعة الأولى لم تخف رغم أني أصبحت كهلاً بعمري الزمني، ولكن شباب النضال مازال غضاً، يتحرك في داخلي نزوعاً إلى تجاوز جسدي، ومتعي الصغيرة، سألهب سهوب هذه الجزيرة من دجلة إلى الفرات بنار الوعي واليقظة، سأمد جذوري الفكرية حتى إلى البدو السارحين في جنوب الرَّد، وحول البحيرة المالحة.‏

سقطت شرارة مومضة في عيني طراد الرداوي، وكان أكثر المناضلين بساطة وعفوية، وقد تتلمذ على يد فجر الشريف، وتنصت إلى كلماته المسكونة بالوجع القومي، من خلال الحوارات والنقاش، وكان في جذوره الأولى ينتمي إلى قبيلة شمر التي ترود فيافي الرَّد وجنوب الجزيرة، وتتسم بالأصالة وهتف في صوت تمسحه بحة صحراوية صادقة:‏

- سأحمل البذور الثورية إلى تلك السهوب، وأغرسها في عقول البداة والحضر بأن الوحدة العربية قدرنا، وأن الإنسانية غايتنا الرحبة، وأن العرب لن يعودوا إلى التاريخ كما كانوا إلا بتلاحمهم وانصهار دويلات الطوائف وذوبانها في الأفق القومي، ولن يخرجنا من عفونة عصور الانحدار إلا حزب ثوري، يرسم ميلاد حركة حضارية جديدة.‏

ربت الأستاذ فجر الشريف على كتفه، بانت غبطة متفائلة فوق سيمائه، وأشعل سيجارة مجها في عصبية، وأردف قائلاً:‏

- سأرحل غداً إلى مهمتي في دمشق الفيحاء، سنحاول أن نجمع الشتات في الحزب الثوري، ونلتقط أنفاسنا، ونعيد التنظيم إلى بنية الحزب. إن عيوناً مخاطية بلون التشفي، تترصدنا في كل مكان، وإن وجوهاً صفراً يتقطر منها السم، ترمي أحابيلها لتصطادنا، وتتهمنا بأننا انفصاليون وأعداء الوحدة، تلك الوحدة التي اعتصرنا أعمارنا عطاء على مذبحها، لا شيء أقتل للإنسان، وأشد فتكاً من اتهامه بأنه عدو لما يعبده، ويلتصق به حتى الموت، أحسُ بأني بالع موسى حادة، معلقة في حلقومي، لا أتحمل محاصرتها، لي، ولا أقدر على رميها خارج روحي.‏

انسربت حزمة من نور القمر الفضي، عبر شجرة الحور الباسقة، وخشخشت أوراقها أمام أنسام البوادي، وانسابت شخوص مشبوحة، على شاشة الليل، كأنها أشباح مطموسة الملامح، تقيم طقوس الوداع، وتحرق البخور الضبابي في شعاب الجزيرة، علامة الفراق والنأي. انتفض نبيل السواحلي المعلم من مكانه، مشى خطوات عدة فوق المصطبة، وتأمل الرفاق الجالسين على الحصيرة ذات التفرعات الأسطورية، وصعّد ناظريه بتلك الأبخرة النارنجية، التي تتصاعد من لفافات يمجها مدخنوها في غمرة القلق. لم يفهم لماذا خطرت في ذهنه لوحة العشاء الرباني في العهد الجديد وصورة المسيح تتماهى في مخيلته مع صورة فجر الشريف وهمس في صوت خافت:‏

- يبدو أن نقلة نوعية في التنظيم تنتظر الحزب الثوري، تقويم عميق لما حدث من انقسامات وانشطار بعد حله، اختيار دقيق لنوعية المناضلين وأساليب النضال، تبديل الأسماء بالأرقام والنعوت في بعض المناطق، صنوف المخابرات وطرق ممارستها، تطورت عمّا كانت عليه في بداية الخمسينات. الحصار يشتد كحرائق الغابات، مهمتي ستكون في قرى الساحل. بعد أسبوع سأرحل من هنا، بعد السعي الدائب الذي قام به الرفاق في قيادة التنظيم لنقلي سراً بلا ضجة، سأبيع أغراضي التي لا أقدر على حملها في أسواق الحسكة، وما تبقى سأعهده أمانة لديكم. عصف بكيان غيلان الجعفي شعور خانق، بأن رملاً متحركاً يتهافت تحت قدميه، وأن طعم اغتراب قديم باللاجدوى، يطفو على سطح شعوره وأن الطاحونة الوثنية تدور برحاها محاولة اعتصاره. لم يجد تعليلاً لهذه الاعتمالات المصدوعة التي تسري في عروقه، دخل الغرفة دون استئذان، استلقى على الخوان الخشبي المهزوز، انفتحت مغاليق مبهمة، انصبَّت عليه من الداخل تساؤلات مضطربة، همس في ذاته المشروخة (معنى هذا سيرحل أغلى أعزائي في هذا العالم! كيف يمكنني وحدي أن أجذف في زورقي الممزق الشراع؟! ستمنحني زوجتي بعض العزاء والسلوان ولكن هذا غير كاف) خرج من بحران تساؤلاته، لا حظ امتداد أصابع ناعمة إلى نقرته، ودغدغات حلوة تنساب في عذوبة ريح الصبا الشرقية. شعر بأن الرمل المتحرك بالخواء واليباب يهرب من رعشة تلك الدغدغات والاغتراب الأصفر، ينقشع من صفحة شعوره، كما تمحو شمس الصباح الضباب المتراكم في قعر الأودية، التقطت رابعة الشريف عمق الأسى والصدوع القائمة في بنية زوجها النفسية، وأسرعت إلى أخيها وأسرَّت في أذنيه ببعض الكلمات، فنهض عن المصطبة، وأنار الغرفة بكبسة على زر الكهرباء الذي كان قد أطفأه غيلان الجعفي عمداً حتى لا يكشف عريه الشعوري، ويتهم بالهشاشة والوهن. حملق في الملامح المعتصرة التي مرت عليها عاصفة، وتركت بقايا من الحزن القلق، مرّ بكفه فوق جبهة صهره، وقال في عتاب وتأنيب:‏

- ياحيف عليك، ينبغي أن نعد أنفسنا لأشد الممارسات قسوة، وأن نتعود على الدفن الليلي لجثث رفاقنا وأغلى أعزائنا، دون أن ينكشف أمرنا، أن نصقل نفوسنا حتى تتحمل أضرى النكبات. إنَّ رحيل أغلى أحبائنا عنا، هو أبسط طرق المعاناة للمناضل، حتى الرحيل الأبدي في عُرفنا، ليس إلا بداية حياة. نموت لتولد في استمرار مبادئنا، لن أتخلى عنك يا غيلان، وسأسعى في نقلك إلى العاصمة، وستسكنان معي في بيتي في ركن الدين وتتابعان دراستكما العليا، إذا بقيت حياً.‏

اعترى غيلان الجعفي حنو كاسح، واحتضن أستاذه بامتنان، وخرجا متشابكي الأيدي، تلحقهما رابعة الشريف وقد غمرتها فرحة وضحكة بادية. التفت نبيل السواحلي إلى رفاقه الآخرين وأردف مازحاً:‏

- لو أعلم أن الزواج الشامي يوصلني إلى هذا الغنج والدلال، لما تزوجت إلا شامية، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، غير أني لست آسفاً يا غيلان على الزواج من أختك، بعد تلك العشرة الطويلة، وأصالة الشيء باستمراره ونتائجه، ونريد أن تسمعنا أنين ربابتك التي أورثك إياها والدك، وأن تسقينا من ألفية العرق التي أرسلها إليك، مع بعض المهاجرين من بني الجعفي، العرق المثلث في مغارة بيت سويلم الدرويش. إن فيها روح عين الغار، وعبق الصنوبر، ورفات الظلال الهانئة في جفنات العنب ومساطح التين.‏

نهض مسرعاً، سحب الألفية المخزونة، فتح سدادة الفلين، تصاعدت رائحة ساطعة، أحضرت زوجه الكؤوس الشفيفة التي اشتراها من أسواق القامشلي بمناسبة زواجه، ووضعت السكملة الخشبية فوق الحصيرة، ووضعت المساند، ومدَّت العشاء المتنوع، والبذورات المحمصة، واندلق العرق المخزون في تلك الكؤوس، وامتزج مع ماء الخابور المصبَّر ليلاً في الخابية، والتمع حليب صاف من هذا الامتزاج، والتهب الليل بحنو الربابة ومواويل الفراق، وانصهر الجميع في بوتقة الفرح الحقيقي، وخرجوا لحظات من قعر همومهم التي تنتظرهم على مشارف مستقبل غامض، وتألقت أصداء الربابة، مع غمغمات ليل الخابور، وبصيص نجيمات سارحة في قبة اللانهاية، وامتزجت مع أجراس الرعاة، وهي تدندن في براري الجزيرة الموحشة من خلال هذه الأجواء الجليلة، وسكبات الكؤوس في أفواه المهمومين، ومع انتشار السكرة في العروق كانت تتوالد معزوفة رحبة الآفاق، تكمن فيها تجاريب الماضي، وتشوفات الآتي، ونداءات الغيب الصارخ بلسان الزمن....‏

- إيه ! أيها الثائرون، قد لا تجدون في أعماركم القصيرة تحقيق رسالتكم وقد يستحصد بذوركم، ونتاج جهودكم، انتهازيون أغراب عنكم لهم قوام مخاطي ولكن قدركم أن تعتصروا أعماركم، عطاء بلا مقابل، وشهادة بلا رسوم وفواتيح، وموتى بلا قبور، ولا تماثيل.‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://starlook.alafdal.net
 
خرائب الأزمنة الفصل 13
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خرائب الأزمنة الفصل 14
» خرائب الأزمنة الفصل 15
» خرائب الأزمنة الفصل 16
»  خرائب الأزمنة الفصل 1
» خرائب الأزمنة الفصل 18

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ستار لوك :: الروايات-
انتقل الى: