منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ستار لوك


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خرائب الأزمنة الفصل 14

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
BaSmA iBrIz

BaSmA iBrIz


انثى عدد المساهمات : 1387
تاريخ التسجيل : 04/03/2011
العمر : 25
الموقع : /https://starlook.alafdal.net

خرائب الأزمنة الفصل  14 Empty
مُساهمةموضوع: خرائب الأزمنة الفصل 14   خرائب الأزمنة الفصل  14 Emptyالخميس 23 يونيو 2011, 14:32

الفصل الرابع عشر

الفراق‏

رياح الدهر هَبَّت عاتية، فطوحت بمصائر الرفاق، وتمزق الشمل بعد تلك الليلة، عاد المدرس فجر الشريف إلى دمشق، سكن في حي "أكرادجوا" في منطقة شعبية، شمال شرقي المدينة، جبل قاسيون بصخوره الكابية، يبدو شيخاً دهرياً غضنته السنون، تركع تحت قدميه تلك البيوت المحفورة في جوفه، وتطل على الغوطة ذات الألق الأخضر، كان جسر كيكية الترابي، يربط بين عالمين متباينين، عالم الخضرة، والعالم الصخري، وقد توارثت أسرة الشريف، رقعة من هذه الصخور، وبنى الأب محمد فجر الشريف ثلاث غرف في لحف هذا الجبل، لما قدم من وعر حمص وتمركز في العاصمة، وعمل موظفاً في إحدى الدوائر العقارية، وقدر بشطارته أن ينتزع تلك الرقعة الصخرية المطلة ليستوطن بها، وقد اضطر إلى بيع أقسام منها، ولم يبق له إلا هذا البيت المتواضع في تلك الأزقة الضيقة، تركه لابنه وابنته، قبل أن يعود إلى قريته، ويدفن هناك على ضفاف العاصي حسب وصيته، وفضل الابن فجر الشريف سكنى البيت، لأن ذكريات طفولته وشبابه مدفونة بين تلك الجدران، وأصابع أعزائه، مطبوعة فوق كل زاوية من تلك الزوايا، ولأن أهالي الحيّ البسيطين، يكنّون لأبيه، حسن التذكر والتقدير، لما كان يقدم إليهم من الخدمات والعون في تطويب دورهم، غير أن هذه الدار الصغيرة المرشوقة في وسط ذلك الحي، كانت تتسرب إلى حيطانها الرطوبة، وقد حدث تشقق في بعض جوانبها نتيجة عدم الصيانة، والهجران لها، ولما دخلها عصر يوم، بعد نزوحه، ليستقر بها، عصفت به ألوان غريبة من الانفعالات تداعت إليه رائحة غاب محروق، وطعم نسيان دفين، الغبار المتراكم فوق الأسرة، المواعين المسودة، الرطوبة المترشحة من الشقوق، والنازفة على الجدران، كخارطة منسية تآكلت أطرافها. الوحشة واللزوجة، وروح أشياء غير مرئية، كانت تكمن هناك في عراء الغرف، وترتطم بشباك العناكب بانطباعات أسية، لأناس رحلوا عن هذا العالم، وأبقوا لمساتهم الخفية فوق مقابض الأبواب ومصاريعها، كانت راقدة في صمت مهيب، الأشياء التي بدت ساكنة فوق الرفوف والزوايا الغابشة، خلعت نسيجها الهامد واستعادت حركتها في حضور العائد إلى بيته بعد زمن مديد، صورة أبيه وأمه المعلقة بصدر الجدار، راحت تثقبه من الداخل، وترسم دوائر مأنوسة، وسط هذه الأشياء، المشحونة بالكآبة، أمه الشامية الأصل ذات الوجه الناصع، والرهافة في الملامح، ذات العينين اللوزيتين اللتين يخالطهما شعاع أنيس، وبشرة ناعمة، امتزجت في صنعها رقة أماسي الغوطة، وبقايا سلالات عبرت على هذه الربوع، وتركت سماتها الخاصة. أنبهر أبوه ذو المنبت الفلاحي، الذي قدَّ جسده من وعر حمص وصخورها البازلتية، بملامح أمه الرقيقة، وألق عينيها اللوزيتين، وتهدل شفتيها المكتنزتين، وهفا فؤادها إليه بالمقابل، أُخذت بصرامة سماته، وسمرته البدوية، وعضلاته المفتولة وسحر عينيه السوداوين، اللتين تكمن وراؤهما رجولة، تعشقها المرأة. تحدت كل التقاليد، تمسكت به، منحته كل مخزونها العاطفي، وتزوجته. حملق فجر الشريف بصورة أبويه الراحلين، لم يدر لماذا تتصدع مغاور الذكرى عن حسرة مفجوعة، حينما نشاهد صور أناس غربوا عن الحياة، وتركوا معالم وجوههم محبوسة في إطار فوتوغرافي، ولماذا يتمسك بنا حضورُهم الكاسح، أكثر مما كانوا في مسار الحياة؟ غاص في قيعان ذاته وارتطم بتلك التساؤلات الحائرة، وهمس في صوت شبه مسموع: (ألأن أولئك الراحلين عنا، والمُغيبين في جزر الصمت الأبدي، يوقفوننا أمام أنفسنا عراة، ويشحنون مخيلاتنا بفكرة الزوال، وهشاشة النهاية الإنسانية وبلادة مصائرنا؟! أم لأن هؤلاء يضرمون أعماقنا بأن الطريق مسدود وأن كل أحلامنا التي غزلناها تستحيل سراباً هارباً، وظلالاً مرتجفة، أم أننا نفتقد الذين لا تُرجى عودتهم، أكثر من الأحياء والحاضرين أمامنا، فحضور موتانا الأعزاء على قلوبنا، يكتسح وجودنا دوماً بذكريات مفعمة بالحنين والشوق إلى المحال)...‏

شعر بأنه يخاطب ذاته بصوت مسموع، فانتابه عاصف إحساس بأن أغوالاً جاهلية تنبثق من خلف كثبان الربع الخالي، ومن قصائد الشعر الموغل في القدم، لها أذناب أفاعٍ برؤوس بشرية، تحاول أن تلدغه فيهرب إلى تداعيات أكثر إضاءة، قرية العثمانية، وعليته المطلة من الجهة الجنوبية على عين الغار، والثانوية التي كان يعلم فيها التاريخ العربي، وتنقلب التداعيات إلى صفحة مُرَبَّدة، سجن الشيخ حسن ينسلّ بعتمته الداجية، إلى ذلك النزف الصوري ويتلامح ضابط المخابرات شوكت العاتي، يقفز فوق لجج تلك التداعيات، بكرباجه الأفعواني، فتصل تلك الفرقعات إلى مسمعه، وترتطم بجلده، كأنها حدثت البارحة، وتحل مكانها صورة صهره غيلان الجعفي ترف حوله، وترتسم فوق الجدار المتآكل، ويمحي الطيف من أهدابه، وتتسلق زوايا مخيلته أخته رابعة الشريف فيهمس في أعماقه: "أين أنتما، أيهذان اللصيقان بي لصوق الشجرة بأرومتها؟ أيهذان المرفآن الأمينان إني أتوق إلى الرسو على شاطئيكما؟ أين أنت يا أختي الوحيدة؟ إني أحتاج إليك في قفري النفسي).اعتراه الخجل من ذاته، ومن وهن النوع البشري، وهشاشة التركيب في البنيان الموروث، وأخرجته من دوّامة خواطره، قرعاتٌ على الباب الخارجي، واستفاق بكليته على صوت يناديه من ثقوب الباب، (افتح، لقد مللت الانتظار)، تغلغل هذا الصوت المعهود إلى سمعه، وتشرَّبته أذنه، فتح الباب، برز شخص رفيقه القديم عمران البلوي الذي افتقده، منذ زمن سجنه معه في قاووش واحد وقد تناهى إلى عمران البلوي نبأ مجيء فجر الشريف إلى دمشق، وحلوله في الحارة التي شهدت أزقتها الضيقة شخصيهما، وأصداء أقدامهما، فوق صخور قاسيون، وسفوحه المجدورة. كانت روابط نضالية، ورفقة طويلة وتخمرات ذكريات طفولية، تشدُّهما برباط وثيق، سرعان ماتلاشى غبار السنين، ومارسمه النأي المكاني والزماني عن صفحة نفسيهما، وانمسح ماعلق على زجاج الزمن من تراكمات وندوب، وانجلت الأعماق عن صفاء عجيب، وتعانق الرفيقان في حنو ظاهر، وهتف عمران البلوي بصوته المعبر عن فرحة اللقيا، قائلاً:‏

- منذ خروجنا من سجن الشيشكلي لم نتلاق، شطَّ بنا البعد، طوَّحتنا الحياة في شعابها الغريبة، وأمسكتنا فكوك العيش بنواتئها، وقذفنا في اللعبة الأزلية، غدونا ندور في دولابها العتيق؛ تزوجت بعد خروجي من السجن، رُزقتُ بثلاثة أولاد، أتعرف هدى بنت جيراننا في الحي؟ كنت تمدح سماتها، لقد تزوجتها، وغصت في مطاوي اللعبة، رحلت إلى بلدان الخليج، ودّرست هناك، حوّشت مايقيني غوائل الحاجة ويجعلني قادراً على أن أزيل صدأ الحرمان والفقر الأسود، وأن أتابع نضالي من أجل أهدافنا البعيدة، بلا خوف من الجوع، وقد سمعت بأن حزبنا الثوري، سيعيد نشاطه، ويلملم شتاته.‏

غار فجر الشريف في ملامح رفيقه القديم، ليتقرى صدق مايقول، بعد أن تكدر النبع، ونفذت مخابرات السراج إلى ضمائر كثيرة، واشترتها، وضعت منها عيوناً على المناضلين، ليحملوا إليها أدق تحركاتهم وخيوط تنظيمهم، وسأله وهو يحس بخجل من سؤاله:‏

- أحقاً أن قسماً من الرفاق الذين حبسوا معنا في الخمسينات، قد استحالوا جواسيس للسلطة، وعيوناً زجاجية لا ترحم، وساقوا رفاقهم إلى المهالك، وغياهب السجون، وكونوا شللاً ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب.‏

أخرج عمران البلوي من جيبه، علبة سجائر بافرا، وانتشل منها سيجارتين، وضع إحداهما في فمه، والأخرى قدمها إلى رفيقه، وأشعلهما من قدَّاحة فاخرة. وأجاب قائلاً:‏

- الصفاء الثوري الذي كان يسكن قلوبنا، في أواخر الأربعينيات قد تكدر بعضه والاندفاعة البركانية صوب الأهداف، اعتراها شيء من الخمود فالزمن يضع بصماته على عقولنا، والصيرورة بمفتاحها السحري، تخلق فينا مخاضات متجددة وتكشف عن معادننا وأصالتنا، أنت تعرف خالد الحامدي وهيثم الجارودي لقد كانا في قاووش واحد معنا في سجن الشيخ حسن، وكانا أشد الناس حماسة، وإظهاراً للتمسك بمبادئ الحزب الثوري...‏

غصَّ حلقه برعشة انفعالية، بان ذعر في معالم وجهه، ساد صمت حزين وهمس فجر الشريف مستفهماً في استغراب:‏

- ماذا حدث لهما حتى سقطا ذلك السقوط المريع؟ مازلت أتذكرهما جيداً.‏

ابتلع عمران البلوي. سحائب الدخان، وأخرجها من منخريه، وأردف قائلاً:‏

- اقتنصتهما مخابرات السراج، وأصبحا أدواتها الطيّعة، تفننا في تعذيب رفاقهما السابقين، حرق الجسد، نسل الأظافر، التغطيس حتى الاختناق في الماء، الجَلْد الوحشي، وتحريق الأعضاء التناسلية. لقد حدث لي فصل جهنمي مع خالد الحامدي، مازالت صورته تؤجج فيَّ الغثيان، والبكاء الأخرس، والكفر بالقيم الشرقية، اقتادني إلى زنزانة تحت الأرض، اتهمني بأني من الحزب الثوري، مارس عليَّ أساليب النازية المتوحشة، مزق جسدي بمشاريطه وكلاباته الحديدية، أدخل الكهرباء في شرجي، حاول أن يبول في فمي، أخرجني من سعيره كتلة مهشمة جسدياً ونفسياً، ولولا الوسائط والشفاعات لتعفنت في تلك الدهاليز المظلمة، وقد سمعت مؤخراً بمجيئك من فجاج الجزيرة فأتيت لأشاهدك سراً.‏

بصَّت خيوط من دموع وغضب، في عيني فجر الشريف، ارتمت في مخيلته أرجل التتار، وهم يتسلون بقطع الرؤوس، وينتشون بحرق الأجساد والمدائن، وتسلقه دوار غريب، وتداعت إليه خاطرة غيلان الجعفي حينما كان يقول: (في البرية الخالية، لا شيء يرعبني، إلا أن أصادف وحدي إنساناً غريباً عني، كل وحوش جبال الشعرا، لم تخفني كما أخافني يوماً عابر سبيل مقطوع، ذاك الذي يسمونه، بشبيهي في النوع)....‏

ارتجفت يداه، ارتجافاً قلبياً، اعتمل في داخله بركان من الأحاسيس المقهورة، أمسك كأساً شفيفة، رشق بها الجدار المتآكل، تشظت قطعها، سمع صوت انسحاق العالم الخارجي، أفرغ روعه، هدأت أمواج نفسه، تعجب عمران البلوي من هذا التصرف الغريب، التقط فجر الشريف معاني تلك التساؤلات التي ارتسمت فوق معالم رفيقه هتف كأنه في خلاء ممتد:‏

- لا تتعجب من تصرفي هذا في مثل هذا الزمن الضاري، تسود فيه تبدلات مجنونة، وتوقعات غير مرتقبة، تتهشم صور أعزاء لنا نؤطرهم في سويداء قلوبنا، ونتلمس فيهم بزوغاً، فإذا هم يستحيلون مسوخاً وكلاباً للسلطة، ويتردون في الهاوية، كما فعل بك من كنت وإياه رفيقي درب واحدة...‏

امسك عمران البلوي خصلات شعره، وراح يجرب اقتلاعها، كأنه يريد أن يقتلع صوراً كريهة من ذاكرته، يوم وقف عارياً، أمام خالد الحامدي الذي حاول أن يبول في فمه، ويضع بوطه الجلدي على وجهه، ويتهمه بأنه يعمل مع الحزب الثوري، بصق في الأرض، بان ذعر كوني في عينيه غطّى وجهه بيديه، حتى يتقي رذاذ تلك الصور، وصرخ كمن يتوخى إخراج قيح مدمى من حوصلته:‏

- الطاحونة الوثنية، التي أسميتها أنت، اعتصرتني بكلاليبها الحجرية، وقساوتها الضارية، ومفارقة سلوك أصحابها. لما وقفت أمام المخابراتي رفيق الأمس، وغدا يوجه إليَّ التهم بالانتماء إلىحزب كان هو فيه، وسجن من أجله، لا شيء يقتلني كالمفارقات، من كان في ذروة الجاهلية عدواً، للوحدانية ينتقل في سرعة بهلوان إلى ذروة الإسلام. ومن كان في أقصى اليمين، يركب الموجة ليتسنم مناصب أقصى اليسار، إنهم حرباويو التاريخ، يجيدون اللعبة والقفز على الحبال، ويشيمون بروق التغيير، إنهم الزئبقيون ذوو القوام الهلامي أنتهازيو الفُرَص والتسلق، وديدان المزابل التاريخية.‏

ارتجفت السيجارة بين أصابع عمران البلوي، وسقطت على الأرض، سحقها برجله، تقاطرت دموعه في صمت انخذالي، أحس بقرقعة دواليب الطاحونة تعصف بكيانه، تمسك بكتفي رفيقه، وقال في رحمانية:‏

- زبانية السلطة ذوو العيون الزجاجية يحاصرون لهاث الكلمة وثقوب الأبواب والنوافذ، ويتصيدون الحروف، ويفسرونها وفق نوازعهم، يحفرون المكائد، يضعون الشباك المموهة فوق الفَّوهات، أخشى عليك من غوائل هذه المرحلة، طلابك في الثانوية التي تدرس فيها، ينقلون كل كلمة تقولها ويضيفون إليها أحقادهم، ويقدمونها تقارير سرية، فالتمس طريقك في حذر، إني أخاف عليك، من كلاليب الطاحونة وأصحابها الذين لا يرحمون، سألتقي بك في الليالي الآمنة، في رفقة من لم يسقطوا في هاوية الفساد..‏

خرج لا يلوي على شيء، غاب في الأزقة الشعبية، ابتلعته منعطفات حارة كيكية الضيقة، ملتفتاً دوماً خلفه خشية أن يكون أحد المباحث يترصده، مشحوناً بقلق مبهم، شاعراً بأنه إذا وقع في الفخ هذه المرة، بعد أخذ التصريح منه فسيذوب في الأوكسيد، ويرمى كقاذورة في مجارير سرية، أو يصب في عمود أسمنتي، لا يعرف حتى الذباب الأزرق مكانه وخبَرهَ، ونهايته المفجعة...‏

***‏

زحف كانون الشتائي، بلهاثه الصقيعي إلى سفوح قاسيون، وسفت الريح نتف الثلوج المتساقطة فوق السلاسل الجبلية، إلى المنحدرات، واستبانت دمشق في غلائلها الثلجية كعروس مكللة بالبياض، وكان الصحو الذي يأتي بعد العاصفة، يرين على العالم الخارجي، ويبدو في القبة اللا متناهية، القمر الشتوي كأنه جمجمة صفراء، يجوب أفق السماء الباردة، ويتسلق منحنيات قاسيون وصخوره الأزلية، حينما قرع باب المدرس فجر الشريف، قرعات عنيفة، تنذر بكبسة أمنية، كما كانت تسمى في تلك الآونة، انتابته الحيرة، عصف به خوف متوجس، تردد في فتح الباب، غير أن الطرق كان عاصفياً، والباب المتداعي، لا يحتمل كثيراً هذه الجزمات الفولاذية، كان يرتدي منامته الصوفية ومعطفه السميك، وأسرع إلى المغلاق الداخلي وحله من حلقته، وانفتح الباب عن وجوه خمسة في زيها الخاكي، أذهلته مسدسات دولابية ترفع في وجهه ورشاشان تشيكيان صغيران، يُصوبان إليه، وسيارة عسكرية تركن في الزاوية، وتناهى إليه، أن رجلاً غابياً، مفتول الساعدين، ذا جثة ضخمة وقوة بغلية، يجره إلى السيارة، ويرمي به في مؤخرتها، ولم تجده نفعاً ترجياته بأن يسمح له بأن يغير ثيابه، ويأخذ معه أغراضه التي يحتاجها. حملق في هذه الوجوه التي تتنزى وحشية، وتنغرز الذئبية في ملامحها، شعر بأنه ذاهب إلى مسلخ عريض وعنت له خاطرة نيتشه: (إن الإنسان المعاصر هو أعرق في قرديته من القردة)، وأغمض عينيه وغار في قيعان نفسه ليبعد عنه مظهر هذه الذئاب التي تنوشه قبل افتراسه، وهمس في داخله: (لماذا احتجاجي؟ مادام هذا قدري الذي اخترته كمناضل، وهذا الطريق الصعب، هومسلك جميع الثائرين عبر التاريخ، كم قاسى الأنبياء والرسل من التعذيب والمكابدات والاغتراب الموحش حتى وصلوا إلى تحقيق رسالاتهم! وكم تقفعت جلود المفكرين والمصلحين الثائرين تحت السياط واكتووا بنيران العذابات، وحاصرتهم العزلة المميتة، وكوابيس الزنزانات المنفردة)، فأخرجته من تأملاته ضغطه على وجهه، وجؤار ذئبي يصل إلى أذنيه:‏

- ولك..... ظاهر عما تشتمنا في باطنك. شفافك عما تمتم بمسبتنا، والله بدنا نسلخ جلدك عن لحمك، وقت ما بتقرصك كلاليبنا الحديدية، بنشوفك نجوم الضهر...‏

استتنقع الزمن، دوّمت فجر الشريف انفعالات مقهورة، ألمَّت به أحاسيس بأنه في الربع الخالي، تبتلعه رماله المتحركة من قدمه رويداً رويداً، وأصداء وحوش مفترسة تعوي في القفر، تتقدم إليه لتسحق عظامه، استفاق على أيد فظة، ترميه خارج السيارة ذات الغطاء الأصفر، وتسحبه إلى المقر المركزي للأمن، رأى نفسه أمام العقيد هيثم الجارودي الضابط المشهور بجلافته وحجرية قلبه، تفحصه في قلق بائن ليقابل بين الصورة التي يدفنها في مخيلته عن ذلك الشاب الذي كان متحمساً لمبادئ الحزب الثوري، وبين الصورة الجديدة التي تباينت عما كانت عليه؛ الشاربان الفاحمان يبرزان في هذا الوجه الضخم كذيل جحش صغير، والعينان الزجاجيتان الجامدتان، كأنهما عينا صقر جارح يريد أن ينقض على فريسته، من الأعلى والوجه المجدور، كأنه قُدَّ من صخر ناتئ، والشعر الكثيف صورة عن غاب نصف محروق، والشفتان المنقبضتان، تتلمظان دناءة إلى الولوغ في دم ضحية جديدة، قفزت من أدغال الذاكرة رقصات الهنود الحمر في الأفلام الأمريكية، وهم يدورون حول الضحية المصلوبة على عمود الموت والنار، ويلوحون بأقواس النشاب والرماح، ضوء النيون الخافت، أمام العقيد المتجهم، يلقي ظلالاً شبحية فوق الجدران، ويضخم من مهابة الأشياء، وسياط بلون اللحم البشري، منثورة في الزاوية، مكتب شديد الفخامة، صُفت فوقه هواتف متشابكة، يتصدر غرفة التحقيق. أنات بشرية، تتصاعد من الغرف الأخر، وترتفع أحياناً لتستحيل استغاثات ضارعة، وقع سياط خشنة تتناهى من الغرف التحتية. ولولات أناس لم يقدروا أن يتحملوا هول التعذيب، تذوب في الأقبية والقواويش، كلها كانت تضفي صوراً مسوخية، ودخول عالم أورفيوس السفلي المعاصر، حيث يستحيل الإنسان دودة كبيرة يدوسها الآخرون، بأقدامهم وآلاتهم الجهنمية، وتفننهم بانتزاع الاعترافات منها. حملق هيثم الجارودي بسمات ضحيته، ليتلمس نقط الضعف كما تتلمس الضبع جسارة من تودُّ افتراسه، نهض من وراء مكتبه، مشى في الغرفة خطوات صارمة، سمرَّ ناظريه في الفريسة، طالعه التحدي القديم ذاته، وصلابة الصخور التي لا تنسحق بسرعة، لكزه بجزمته الفاخرة، ذات النضوات الحديدية على مفصل ركبته، وابتدره قائلاً:‏

- سأسحق جسدك، أيها الحرذون المدرس هذه المرة، لن تنجو من زنزانتي التي تطورت أساليبها عما كانت عليه أيام زمان، أخبرتني التقارير الصادقة بأنك، تعيد تنظيم حزبك الثوري، الجدران تنطق عندنا، تخبرنا، عما يحدث بين المرأة وزوجها، عندما يضاجعها، ومايسره الوالد لابنه، والأخ لأخيه، لم تشبعك قرية العثمانية، ولا شعاب الجرود، حتى ولا فجاج الجزيرة. من دعواتك المشبوهة، إلى التنظيم والعودة الموهومة إلى التاريخ كما تتقول مبادئكم.‏

انقلب على قفاه، وهو يضحك ساخراً، عاد إلى مكتبه، وأخرج من درجه ملفاً وراح يقتفي مسار حياة الموقوف.‏

- هل أبوك من وعر حمص، ومتزوج امرأة شامية الأصل.‏

- نعم...‏

- متى انتميت إلى الحزب الثوري؟‏

- منذ كنت طالباً في ثانويات دمشق.‏

- متى أوكلت إليك مهمة التنظيم الثوري في قرية العثمانية ومناطقها؟‏

- منذ أيام طغيان الشيشكلي، وبعيد زحف دباباته علينا، فوق جسر فكتوريا، ولولا أني قفزت في نهر بردى، لما رأيتني أمامك.‏

سافر فجر الشريف بعينيه في الفراغ، وانقذفت من رميم الماضي طيوف رفاقه الذين كانوا أمامه في التظاهرة، وهم يدفعون الحديد بصدورهم العزلاء، ويحفرون فوق ذرا قاسيون أسطورة أن العين تحطم المخرز واللحم المعجون بالتصميم يهزم الفولاذ ويفله، وانتابه إعصار من التعملق، واستحالت أعضاؤه الملطومة، رماحاً، لا تلين، وموقفاً يبتغي الشهادة، ولا يبالي بالموت وأردف مضيفاً على كلامه:‏

- بكل فخر كان ذلك، وكنت أنت في ذلك الزمن، تنتمّي إلى التنظيم الثوري نفسه الذي تحاربنا بالانتماء إليه، وطلبك بالانتساب مازلت أحتفظ به بين ذاتيات الرفاق الماضين.‏

هبَّ المقدم واقفاً، كأن ناراً قد شبت فيه، بان ذل وضيع، وخوف من ماضٍ يتوخى قبره، حتى لا يؤثر بمنصبه المخابراتي، ضرب على المكتب ضربات انفعالية وصرخ:‏

- أنت تفتري، لم يكن في ماضي ذلك الهراء، لم أسقط بتلك التفاهة يوماً، ماكرهت شيئاً في عمري كراهيتي لكم، ولأحلامكم الطافرة وطروحاتكم الفجة.‏

خيمت سكينة دبقة، اعترى فجر الشريف شعور بأن الطاحونة الوثنية تنهش في قلبه، دواليبها تعتصره بألف لون من الخيبة، يقودها حربائيو الوجوه، انتهازيو العصور الذين يجيدون تسلق الحبال، ويتحينون الفرص، ويعيدون تركيب قوامهم الهلامي، وفق مسار القوة، يتربصون بدوائر الأفاعي، ويطحلبون أنفسهم نعالاً في اقدام الأقوياء والقائمين على رأس السلطة، سرح طويلاً في شعلة النار التي كانت تنتفض في الموقدة المربعة، وردَّ عليه في هدوء غريب:‏

- بإمكانكم أن تسحقوا أجسامنا التي بها تحاصروننا، وتحاولون إذلالنا، إنها وسيلتكم المادية في قهرنا، أما أفكارنا وقناعتنا ورؤيانا في الوجود فلن تقدروا مهما بلغتم من القوة، أن تحبسوها في قواويشكم، وتجعلوها رهينة لكم.‏

مشى هيثم الجاردوي صوب الزاوية، انتزع سوطاً في رأسه مقرعة صلبة تلبُسه إحساس بالافتراس، انهال ضرباً على ظهر فجر الشريف الذي صمم على أن يموت شهيداً، ولا يطلب الضراعة والشكوى، وحاول أن يخرج جسده الكثيف من دائرة تفكيره، ويعطل تماسه معه، لكن عبثاً ماكان يحاوله.‏

ألمَّ التعب بالعقيد رجع إلى مكتبه، رنَّ الجرس الذي خلفه، نبق من الباب ثلاثة رجال ذوو أجسام متوحشة، وكروش مندلقة، وعضلات سنديانية يتنزى من وجوههم ميل سادي إلى التعذيب، حيوه بتحية عسكرية، وبقرقعات أحذية مستعدة، أشار إليهم قائلاً:‏

- جرَّوا هذا النذل الذي يحفر في الأساس، لاسقاط الجمهورية، ويعيد تنظيم ملغى في قواميس وحدتنا، اسحبوه إلى القاووش الأشد عتمة وعزلة.‏

اجتاح فجر الشريف غثيان أصفر، بدت الطاحونة تدومه، تزوير التاريخ يقضم إيمانه بالعدل الإنساني، أحس بأنه في نهاية التاريخ القديم يقاتل مع العبيد في سهول روما، مع اسبرتاكوس في حصاره، ويدافع عن الحسين في كربلاء، في ذروة العطش المقهور، وغاص في داخله هامساً: (لاشيء أقتل لشرفاء الإنسانية وثوارها، من أن يتهموا، ويحكم عليهم بالموت بتهم العداء والخروج عن المبادئ والقيم التي ضيَّعوا أعمارهم من أجل تحقيقها وتنفيذها. من أجل قيام هذه الجمهورية ضحى الحزب الثوري بذاته على مذبحها، وهذا المخابراتي هيثم الجارودي يدمي جسدي بكرابيجه، بالتهم ذاتها) ارتطم هيكله العظمي بجدار قاووش صلب. ترسبُ في فراغه ظلمة كانونية. كان الثلاثة العتاة، قد رموه كصندوق نفاية فوق الجدار الأسود، اكتسحه إحساس بأن رجله اليسرى انفصلت عنه، جزء من جسده خرج عن إرادته حاول أن يحرك هذا الجزء بلا جدوى، رجله اليسرى انشلت من رجة رأسه في الحائط، ورميه كنفاية. راح يتلمس منفذاً في العتمة، كوة صغيرة في أقصى الزاوية الشمالية، ينسرب منها ضوء خافت، وأشباح متراقصة حاول أن ينهض، غدرت به رجله، غار منتحباً في أغوار ذاته السحيقة، بوّابات منسية فتحت مصاريعها، فوّارات من ذكريات أيام المراهقة اندلعت من مكامنها، يوم كان في قرية والده على ضفة العاصي، تنبض في قلبه أحلام بعيدة، ينسرح في رعونة ذلك الزمن الفضي، تنشحن مخيلته بجزر بكر، لم يطأها ذكر، وبقطيع من الحور الشقراوات يتأرجحن على رمل الشاطئ، عرايا في بدئية الحياة الأولى، يومئذ وقع في فخ حديدي نصبه الفلاحون، لاصطياد الثعالب والضباع التي تخرب المواسم، وتأكل الدجاجات والفراخ، الرجل اليسرى ذاتها، عضها الفخ، وانقبض بكماشته عليها، حاول أن يفلتها من قبضته الحديدية، لكن عبثاً، ظل الفخ يحبسها في إطاره غدا يصرخ، ويستغيث في ذلك القفر، تتناقل الأصداء صوته، نهر العاصي يغمغم، يبتلع تلك الصرخات، الأحلام تهرب بلا عودة. آنئذ عصف به غضب وحزن، بأن رجله اليسرى خانته، الرجل نفسها تسقط في الهلاك، فلاح نبيل المناقب، رآه عبر الضفة الغربية يزحف بالفخ، ينهض ويقع. تناهى إليه الصوت المستغيث، عبر المخاضة إلى الضفة الشرقية، حنا على رجله، خلصها من احبولة الفخ، انقطع النزف الصوري من الداخل، وطفا فجر الشريف على الواقع الوغد المحدق به.‏

وخاطب رجلة اليسرى، بصوت مسموع: (من يخلصك هذه المرة. الرحمة ماتت منذ زمنِ السفلة، أنتِ الآن في قبضة الأوغاد انفصلت عني، وأنا في المحنة، أرجوك أن تعودي إلى حضني وإرادتي، لأنني أكثر حاجة إليك من أي وقت مضى).‏

ظلت الرجل اليسرى صامتة، كأنها صخرة صماء، بلا حركة، رست ظلمتان ديجوريتان حول فجر الشريف. ظلمة الخارج، القاووش المليء بالرطوبة والبراغيث السود، والصقيع الذئبي، وروائح عفنة، وعزلة عن الآخرين.المحبوسين الذين نقلوا إلى أماكن أكثر أمناً واستئناساً، وظلمة الداخل المصلوب على عطالة شلل الرجل اليسرى، وعلى ضباب مستقبل مجهول لمناضل في العالم الثالث، لم يكن له من ذنب اقترفه، إلا أنه صمم على أن لا يلتوي وأن يرتفع إلى صعيد رسالته التي آمن بها، ويرسم في شعاب الحياة طريقاً مستنيراً، إن الموت في سبيل الرسالة المستخلصة من المعنى الكبير للوجود الإنساني، هو الطريق الوحيد للوصول إلى صعيد الرسالة. وتجاوز الإنسان ذاته.‏

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://starlook.alafdal.net
 
خرائب الأزمنة الفصل 14
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خرائب الأزمنة الفصل 15
» خرائب الأزمنة الفصل 16
»  خرائب الأزمنة الفصل 1
» خرائب الأزمنة الفصل 18
» خرائب الأزمنة الفصل 2

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ستار لوك :: الروايات-
انتقل الى: