منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ستار لوك


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خرائب الأزمنة الفصل 15

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
BaSmA iBrIz

BaSmA iBrIz


انثى عدد المساهمات : 1387
تاريخ التسجيل : 04/03/2011
العمر : 25
الموقع : /https://starlook.alafdal.net

خرائب الأزمنة الفصل 15 Empty
مُساهمةموضوع: خرائب الأزمنة الفصل 15   خرائب الأزمنة الفصل 15 Emptyالخميس 23 يونيو 2011, 14:34

<table style="table-layout:fixed;"><tr><td id="cell_1047013007">
الفصل الخامس عشر

التخاطر

عويل الريح الكانونية، في سهوب الجزيرة
الممتدة، يتغلغل إلى حارة الخابور الغربية، والليل الخنزير يجثم هناك وراء
القفار، والنهر الفائض يزمجر حول الضفاف وتلطم أمواهه الفائرة شجيرات
الصفصاف والحور، وبساتين آل موري. وتندلع أشباح متراقصة من امتزاج العتمة
والأضواء الشاحبة فوق مدينة الحسكة، حينما كانت رابعة الشريف في غفوة، ترقد
بجانب زوجها وتستفيق مذعورة على نداء بعيد، يهزها من أرومتها، فتطرح
اللحاف جانباً، وتخرج إلى الغرفة الثانية، حيث طاولة الكتابة، وأريكة خشبية
طرح فوقها فراش صوفي، وفي الزاوية مكتبة مخلعة، تطل منها كتب حسنة
التجليد، أهداها إليها أخوها بمناسبة زواجها. المرآة المشبوحة فوق الطاولة
بإطارها الشاحب، شيء غريب يلف الغرفة، ويرف، فوق السقف، صورة أثيرية تدب
فوق الجدار الأبيض. جلدها يقشعر، دوائر بلون الخوف تتمشى في عروقها، امتداد
غير مألوف، ينفتح أمامها، كل خلاياها قياثير مرهفة، لتقبل شيء آتٍ من
الأقاصي، عقلها ومدركاتها، وقابليتها للتلقي كلها انصّبت في بؤرة ملتمعة،
حدس مشرق لم تعهده من قبل، يمسح كوى حوّاسها، تكشف المخاض عن صورة فجر
الشريف يرسف في قاووش شديد الظلمة يئن، يمسك رجله اليسرى المعطوبة، يرتطم
بأرضية مليئة بالجرذان والصقيع والعفونة، أحست به يرف حولها، حاولت أن
تحتضن صورته، بلا جدوى حال من التلباثية غير المفهومة، تقمصتها، ظلَّ يحدق
فيها بعينين دامعتين لايرف لها جفن. تجسدت الصورة بصوت أثيري: (أنا في محنة
يا أختي، حاولي أن تأتي إليّ) كررها مرات عدة، اختفى وراء الجدار، أصاب
الانبهار التلباثي مخيلة رابعة الشريف، ركضت مرعوبة، إلى غرفة زوجها
النائم، هزته في جنون، استفق استفق.. فتح زوجها عينيه، تأملها في هلع، كانت
تنشج كطفل داهمته العاصفة وحيداً في برية خالية، تهمي دموعها فوق صدره،
ناداها في حيرة:


- ماذا ألم بك؟ هل هو كابوس عفريتي، زحف إليك من براري خيالاتك؟

هزها في عنف، أبعدها عن صدره، مسح شعرها
الإنسيابي في أنس، رفعت رأسها وهي تحدق في الجدار لعلها تسترد الصورة التي
تلاحقها أجابت في ارتعاش:


- أخي فجر الشريف
كان هنا منذ لحظات، رأيت صورته بعينيها، تمشي فوق جدار الغرفة الثانية،
قاووش بلون الموت كان يحاصره، رجله اليسرى معطوبة، في عينيه ذعر كوني،
وضراعةُ مَنْ على شفير هاوية.


ناداني بصوت أثيري: (أنا في محنة ياأختي، حاولي أن تأتي إلي)...

تذكر زوجها حالات مشابهة كانت تنتابه في
سجنه الانفرادي، أناس يزحفون إليه من خلف الجدران، رأى أمه وطفا تدب مرات
عدة من خلال فرجات الشبابيك الحديدية، ويسمع صوتها في وحشة الصمت الليلي
تناديه: (لا تخف يابني، إن قلبي معك، وإني أراك من وراء الأبعاد) سرح غيلان
الجعفي فوق تضاريس الحائط المبلل، كمن ينقب في الزمن البعيد، ويجوس في
غابات بدائية طواها النسيان وقال في انفعال:


- ليست رؤاك غريبة
عني، حدثت لي أمور تلباثية لما كنت في السجن. أمي رفت حولي مرات عدة، نفذ
أيوب السارح إلى زنزانتي من معصاه في جبال الشعرا، تشوفته بأم عيني، صورة
مجلوة فوق الجدار، خاطبته من سجني، وخاطبني من منافيه البعيدة، إن وراء
مادتنا الكثيفة وحواسنا المحدودة، دنيا خفية، مترسبة في قيعان ذواتنا،
ورثناها عن القرون الخالية وتبلورت في العقل الجمعي، أرجوك افتحي النافذة،
لنطرد تلك الاعتصارات التي تأكلنا من الداخل، والندوب القديمة التي مازالت
عالقة في زوايانا الخفية كأجراس خافتة، تدندن بالغموض، والخواء، والغاب
البدائي.


ترددت في فتح مصاريع النافذة، أبحرت في
عيني زوجها، التقطت أطلال قلق بعيد، كان يصلبه على عمود العزلة والوحشة،
فتح النافذة في عصبية ظاهرة، تناهى إليه جؤار العالم الخارجي في عري عناصره
النادبة، وصرخ كمن ملأه شعور بالامتداد، والتوازن بين عالمي الداخل
والخارج المحتدمين:


- الخابور الشيخ
الجليل، تجتاحه فرحة امتلاك الضفاف والنهر، بمملكة الليل الفاحم، والامتداد
صوب آفاق أشد فيضاً ورحابة. هناك أرغونات سحرية، تتصاعد من جوفه الفيَّاض،
وتذوب في مغاور جنوب الرَّد وتحتضن جلال الفرات في لقاء عجيب، إني بحاجة
إلى جنون خارجي دوماً يتوازن مع ريح أعماقي، يطهرني من احتدامي الداخلي،
ويمتص العاصفة في كياني. كلما غرت في قحف رأسي، رأيت مخابراتياً، يقعي
هناك، يتملاني بسوطه، يتهددني ببوطه ذي السوار الحديدي، وماصورة أخيك الذي
تجلى لك فوق الجدار إلا مظهر التخاطر، النادر الوقوع للحاسة السادسة، التي
افتقدناها نتيجة طغيان الحواس الخمس ، على مدارات مشاعرنا، ينبغي أن ترحلي
غداً إلى دمشق وتستجيبي لطلبه، وتساعديه في محنته، وأذهب أنا إلى عين الغار
في الفرصة الانتصافية، لأتلمس مافعل الزمن بأهلي، وأعزائي.


عصف حنين مهووس في عروق رابعة الشريف لما
نفذت إليها كلمة الرحيل والبعاد، امتطتها شهوة مدمرة إلى مضاجعة زوجها،
وتكوزت بشكل الخوف على غبطة راعشة، تنسل من أصابعها، وتذهب ولا تعود.


أحست بأن القدر يلتهم زهوة أحلامنا، يقوض
بيوتاتنا الرملية، التي بنيناها على شطآن المراهقة، لا يمكن لنا أن نتحمله
إلا بالتحام جنسي ذي طعم ناري، نهرب فيه من مجابهته، بالاعتصار والنزو،
وشدَّت زوجها إليها، ونادته في تلهف حواء الأولى:


- اعتصرني،
ياحبيبي، غيب شفتيك في دفء شفتي، امتلكني كما يمتلك الخابور، الضفاف
بالامتلاء والفيض، غيبني لعلي أنسى كل همومي وارتطامي بطريق قد يكون
مسدوداً...


ازداد عويل الخابور عنفاً، التمعت بروق،
كانت تكشف أسجاف العتمة بوهجها، تراكضت غيوم داكنة في قلب الليل، انهل وابل
من المطر، تأجج في مخيلة غيلان الجعفي شبق. أوصد النافذة، عرَّى زوجته من
غلائلها، تشرَّب بعينيه مراياها النهرية، الرابضة، دغدغ سمرة نهديها
النافرين، غمغم في فرحة الافتراس:


- روح المطر تهيج
فيَّ شهوانية خاصة، أشعر أن أمي الأرض تتفتح كل عروقها، لأغمرها بجسدي،
وأحمل اللقاح إلى رحمها الطينية، لأذوب رعشة فيها، وأمتلك العالم لحظات لا
معة، وتتناغم إيقاعاتي مع تراجيع المطر والريح والليل الجليل، كما حدث لما
افترست عذريتك فوق الضفاف، وأحابيل المطر تتساقط على جسدينا المتداخلين، قد
يتجمع كل فرح العالم وحزنه في بؤرة تلك اللحظات التي تمر كالشهاب الثاقب،
وقد لا يعود مذاقها أبداً، ويتكرر.


تعانق الجسدان في رحم الأرض وانصهرا في
نزوة الطين، لحظات خارج الزمن، وكانت كوابيس الرحيل والفراق، تترصدهما وراء
متعتهما العاجلة، لتطوح بهما في قفار المستقبل المجهول، وينوشهما قدر
أبله، ويسوقهما مصير خفي ويبرز المغزى العميق للعالم، بشكل أسطورة عتيقة،
أن الصلب همجي ودائم في أسطورة الإنسان الثنائي، جزؤه الأسفل مسكون، بثور
جامح، يتلاعب به فحيح الغرائز، والتوقان المجنون، إلى التمرغ في خبايا
أنثى، والجزء الأعلى بشكل وجه إنسان، يحاول أن يتخلص بالعقل من عصف الجنوح،
وإفراط الشهوة، وسيظل هذا الصلب، رحى دائمة الدوران، تطحن في مسارها،
أحلاماً خضرا عِذَاباً، وشوقاً مخبولاً إلى متع هاربة، مستحيلة الدوام،
وندماً خائباً بأن الحلم المنمنم بنوافير الكبت، أكثر جمالية من الواقع
العاري المشخص، وأن الأنثى التي يستحيل الإمساك بجسدها، أعمق خصوبة، في
تهييج الأحلام وإخصاب الخيال، وإغناء عملية الإلهام والإبداع.


***

غربة داكنة بلون الخواء، تغلغلت إلى صميم غيلان الجعفي،
بعدما أصبح وحيداً في مفاوز الجزيرة إذ حاصرته أحاسيس ذات استطالات غولية،
وصار يخشى من المكوث وحده، وسط تلك الليالي المليئة بالتوجس، والخوف من
الخوف. حاول أن يخدر مخيلته بتعاطي شرب العرق الثقيل، وإملاء جوفه منه
والهروب من هواجسه، لكن السكرة في أقصى مداها، كانت تفتح بوّابات غريبة في
نزوله إلى تلك الأغوار السحيقة، وينتشر رذاذاً أسطورياً، أثناء تحديقاته
بتلك الأشياء المتربصة في العتمة، كان كلما ازداد في السكرة قلت قدرته على
إغلاق تلك البّوابات السرية، وأمست طبقات ذاته الجوانية، مسرحاً لعراك ضار.
ولم يجد ملاذاً له، إلا الفرار إلى قلب الضجيج الأنسي، ولجأ إلى رفيقه
نافع الديراني، فارتمى في مقهى الدير يشرب الشاي وفق الطريقة الديرية،
ويدخن النارجيلة ويصغي إلى بقبقات الماء في زجاجها ويستأنس بصوتها، ويشارك
في الأحاديث الشعبية، ويرجع إلى بيته بعد هزيع من الليل، ولا يكاد يستلقي
على فراشه، حتى تعاوده المخاوف، وتمسي مخيلته راداراً، هائل الالتقاط،
ومعملاً يفرز صوراً لا حدود لها، وتمسح الجدار بلزوجتها الخاصة. حتى نهر
الخابور الذي عشق تهويماته في الدجى، استحال غولاً أزرق يناديه من وراء
الشطآن ليرمي بجسده فيه، وتغيبه اللجج الهائجة إلى الأبد. وانفساح آفاق
الجزيرة، الذي كان يخلق في كيانه، دوّامات تنقله إلى صحارى، وواحات
الجاهلية الأولى، وحداء الشعراء البداة، وترانيم القصائد المشحونة بالوقوف
على الأطلال، وبكاء الدمن الخوالي، والتذكر الضارع إلى أمسيات الحبيبة،
ومضاربها الراحلة. كل هذه الأشياء العزيزة الضاربة في جذور الماضي، استحالت
رملاً متحركاً يكاد يبتلعه في وحشة مدمرة، فقرر أن يهاجر إلى عين الغار
بعدأن سلم مفاتيح بيته إلى نافع الديراني، وأن يبيع له مواعينه ويدفع عنه
ماترتب من أجار، وسيخبره غيلان الجعفي هاتفياً إلى المدرسة بما سيؤول إليه
وضعه، وخاصة أن الفرصة الانتصافية على الأبواب ويسعى جاهداً إلى الانتقال
إما إلى مدينة دمشق أو إلى مدن الساحل أو يأخذ إجازة بلا راتب بسبب حاله
الصحية غير المتوازنة، لأن حاجته إلى العالم الإنساني عميقة جداً، وأن لا
شفاء له من هواجسه، إلا أن يذوب في محيط هذا العالم، ويغرق في رحمانية
الحنو الذي افتقده منذ مراهقته. كان في وداعة رفيقاه المعلمان، وبعض
الأغراب مثله في حاره الخابور الغربية، كان صباح شاحب، يكفنه صقيع الضفاف
بنقاب أسطوري شبيه بمناخ بحار الشمال، وجنياته الضبابية. لمَّا ركب في باص
باهت اللون من كثرة الغبار المتصاعد من الطريق الترابي الذاهب إلى دير
الزور، وألقى نظرة أخيرة على مرتسمات نهر الخابور وأشجاره التي تفيأها
زمناً، وتداعت إليه نفثات الحنين وتألق في ذاكرته الصمة القشيري من روابي
نجد، وحنايا الماضي البعيد وتمتم في صوت خافت بهذين البيتين:





<table width="413" border="0" cellpadding="7" cellspacing="0">

<tr>
<td valign="top" width="49%">
وليست عشيات الحمى برواجع
</td>
<td valign="top" width="4%">
</td>
<td valign="top" width="46%">
إليك ولكن خلِّ عينيك تدمعا
</td></tr>
<tr>
<td valign="top" width="49%">
بنفسي تلك الأرض، ماأطيب الربا
</td>
<td valign="top" width="4%">
</td>
<td valign="top" width="46%">
وما أجمل المصطاف والمتربعا
</td></tr></table>

لكزه أعرابي جلف، كان يجلس بجانبه فصحا على نفسه، وسرح
طويلاً بناظريه في تلك البراري الشاسعة، التي لا شجر فيها، وكان الباص ينهب
تلك السهوب المغطاة بندف صقيعي، ويتوجه إلى دير الزور، الغافية على شاطئ
الفرات حينما كان غيلان الجعفي ينهب ذاته من الداخل، ويوغل في شفافية زمن
بعيد، ويتقرى في مخيلته تضاريس بلاد العرب الجنوبية، ويعيد في ذاكرته قصائد
الجاهلية، والحداء الليلي المشحون بإيقاع الرجز، وعزيف الجن في العراء
الرحب، ونجيمات شديدة اللمعان، معلقة في أذن الجوزاء، وانثيال كثبان الرمل
الناعمة، والبقر الوحشي، والظباء البيض الرشيقة، وأرداف بنات الصحراء
المتموجة بالصحة، والعيون النجل لصبايا الجاهلية، والغواية تندلق شهوة من
شفاههن اللعس، سمَّر نظراته في صبية بدوية ذات سمرة غاوية، تجلس في المقعد
المقابل، الوشم المنمنم حمله إلى مضارب الخيام في الصحارى العربية، الشفة
الممتلئة التي توحي بالاعتصار، أفعمت خياله برقصات الأقبية في الجنوب
الإسباني، وتمايلات الخصور الهيف والإيقاع الغجري، والبريق الشهواني الذي
كان يندلق من عينيها الفاحمتين، ملأ خواطره بالتثبت والغزل الماجن، الصاعد
من حكايا ابن أبي ربيعة، ولقائه الليلي بمحبوباته. لم يدرك لماذا انثالت كل
تلك التداعيات حول أعشاب ذلك الزمن العتيق، ومرتسمات الشخوص الغابرة، ونسي
حاضره المفجع واغترابه الموحش. أخرج سيجارة من علبته، وأشعلها بثقاب من
الكبريت وأعطى لجاره الأعرابي واحدة أخرى مجها الأعرابي في التهام حتى خرج
الدخان من أنفه، وتلمظها كمن يتذوق طعماً طيباً، وقال في صوت أجش:


-والله زين
هالدخان، "أني" من أعراب جنوب الرَّد أبي عربي قح، قبيلتنا من شمَّر
الأصيلة اللي مابتعرف الفاينة، أصولنا تروح بعيد إلى قيعان الجزيرة
العربية، ونجد العدية، وأنت أنت حضري.


حملق فيه غيلان الجعفي، تقرى ملامحه
القاسية، ليتعرف عليه. السمرة الغامقة شمرية، تعابير الوجه، والأنف ذو
الأرنبة الضخمة، العين الفاحمة كسواد حب الديس الناضج في أواخر الخريف،
البساطة المباشرة التي لا تعقيد فيها، الفخر التاريخي بالأصالة، كلها سمات
شمرية، كان قد علّم تلاميذ منهم في مدرسة العشائر وعرف ملامحهم، وذكاءهم
الفطري، ونبالة خصائلهم، فأجابه في تعاطف:


- جميل أن يفتخر
المرء بقومه، وأجمل منه أن يتشبه بهم في مناقبهم، أخبرني تلامذتي عن
أصولكم، ورحلاتكم المتنوعة، وحروبكم مع هجناء الجزيرة، يقتحم الأغيار
مرابعكم في جنوب الرد، ويقتلعونكم من مضاربكم، ومراعيكم، ومشاربكم، كما
اقتلع العرب من إسبانيا، وفلسطين وستطردون كما طردوا، وتشكل دويلة غريبة،
تمتد حتى ماوراء دجلة، إنه خطر ماحق يحدق بكم وبأمثالكم، يا أبناء شمر...


خيمت سكينة، كانت تقطعها هزات الباص فوق
طريق غير معبد، وصرير عجلات ورغاء إبل في تلك البوادي، أزاح الأعرابي
شملته، وحرك عقاله، وتنحنح، وأبرقت عيناه في غضب، وقال بلهجته البدوية:


- دريت والله
ماتعني، قبيلة شمر مايخفى على شيوخها شيء، ماتنام على ضيم، غاراتها تشهد
على صمودها في الهيجا وساحة الحرب، أرض الجزيرة زين. مانغادرها ولو بقلع
العيون، بموت أني والنشامى الشجعان، وأختي هالزينة وأمثالها بتبقى تصون عرض
القبيلة وشرفها.


رنا غيلان الجعفي رنوات حانية الى تلك
الشمرية المليئة بالوشم، والخطوط الزرق المنتشرة في تقاطيع وجهها المعبر،
وبتلك الأقراط الفضية في أذنيها ومنخري أنفها. فقفزت إلى شاشة مخيلته صورة
الشاعر الضليل امرئ القيس من جذور الجاهلية الأولى، يتربص في دارة جلجل عند
الغدير، يتملى عري عنيزة وحوارياتها من البدويات. لم يدر لماذا قادته تلك
الخطوط الموشومة، إلى عمق الجاهلية. كان جسر دير الزور المعلق، قد بدا
أمامه، وهدير الفرات المتعالي يعج من تحته، كأنما الباص المترنح عصفور قد
علق بقضبان الدبق، من جانب وراح يرفرف محاولاً التخلص من جانب آخر، نهر
الفرات بعجيجه الغولي ولججه الفائرة تحت الجسر، أوحى إليه بأنه يسمع أنين
المحيطات في الأعالي القصية، هوى بناظريه إلى اللجة الزرقاء في وسط النهر،
ونقلهما إلى الخطوط الزرق الموشومة في صفحة خد الأعرابية، فأحس أن اللجة
السحيقة تناديه من الأدنى واللعس الغاوي فوق شفة الشمرية يومئ إليه أن
يعتصره، وكلا التيارين يتجاذبانه في غواية جارحة، بأن يلقي بمصيره في
أحدهما، فارتطم جبينه بالإطار الخارجي للباص، لفرط التحديق في تيارين
مفارقين، وسال دمه، وأشفقت عليه الشمرية، فناولته منديلاً وردي اللون من
عبِّها، ليمسح قطرات الدم السائل. توقف الباص، بعيد الجسر، نزل ركاب دير
الزور، تلاقت عينا الشمرية بعيني غيلان الجعفي، واحتضنت رنواته الحزينة
النافذة، وشعرت بخفقان قلبها، بحنو إنساني خفي، يسري في عروقها، فأشارت
إليه أن يبقي المنديل معه، دون أن يلاحظها أخوها الأعرابي، لعل ريحاً من
الذكرى تسفه يوماً إلى جنوب الرد. وابتلعت شخصها الراحل، البيوتُ الترابية،
والأزقة الضيقة، وهمس في داخله، قائلاً:


"شكراً لك أيتها البدوية، لقد أفعمت
ذاكرتي، بالموحيات القديمة، وأيقظت رؤى غافية، كنت بحاجة قاتلة للاستئناس
بها، والتأرجح فوق حشائش واحات خضيلة، منشورة في براري الحياة الأولى، تعشش
فيها الأحلام الناعسة والأساطير والشوق المضني إلى استرجاع أزمنة طازجة،
غابت في شعاب الماضي البعيد، وأضحت أصداء حلوة لارجاء في عودة شخصاتها
الراحلة.

</td></tr></table>

<table width="100%" cellpadding="0" cellspacing="0"><tr><td class="posticon" bgcolor="red"><table width="100%" cellspacing="2"><tr><td class="posticon">
06:10 - 06/20</td><td class="posticon">خرائب الأزمنة الفصل 15 Icon</td><td class="posticon">خرائب الأزمنة الفصل 15 Icon</td><td class="posticon" width="90%"> </td></tr></table></td></tr></table><table style="table-layout:fixed;"><tr><td id="cell_1047013123">
</td></tr></table>
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://starlook.alafdal.net
 
خرائب الأزمنة الفصل 15
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خرائب الأزمنة الفصل 14
» خرائب الأزمنة الفصل 16
»  خرائب الأزمنة الفصل 1
» خرائب الأزمنة الفصل 18
» خرائب الأزمنة الفصل 2

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ستار لوك :: الروايات-
انتقل الى: