منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ستار لوك


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خرائب الأزمنة الفصل 19

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
BaSmA iBrIz

BaSmA iBrIz


انثى عدد المساهمات : 1387
تاريخ التسجيل : 04/03/2011
العمر : 25
الموقع : /https://starlook.alafdal.net

خرائب الأزمنة الفصل  19 Empty
مُساهمةموضوع: خرائب الأزمنة الفصل 19   خرائب الأزمنة الفصل  19 Emptyالخميس 23 يونيو 2011, 14:39

<table style="table-layout:fixed;"><tr><td id="cell_1047013123">
<table><tr><td valign="top" width="100%">

<table width="100%"><tr><td valign="top">
الفصل التاسع عشر

انشطار الأسرة وتمزقها‏

نفث أفعوان
المحرمات والتابو الشرقي عن الشرف والعفة، سموم شكوكه في أرومة غيلاان
الجعفي. ولم يقدر أن يتكيف مع الواقع الجديد. وازدادت الفجوات اتساعاً.
وتنزى وحل الخيانة في مخيلته، وتصور أن كثيرين من الأغراب نفذوا إلى عري
زوجته، وضاجعوها في استجابة منها. وراح الصوت الخفي يسرح في أقصى مداه،
ويقهقه من خلفه، وينهش كومات الأمان والاستقرار، ويفتتها ذرات من الارتياب
بكل شيء. وأضحت فكرة الرحيل في المكان، وتقصي المدينة بأزقتها وشوارعها
وحدائقها، الميل الكاسح الذي غدا يجتاحه ويريحه، ويبعده عما ينغل في قلبه
من وساوس وقلق مبهم. وكان أصدقاؤه القدامى الذين عايشهم في غابرات أيامه،
ومدَّ إليهم يد المعونة، وبثهم أفكاره المتمردة، يتهربون منه، ويخافون من
السلام عليه، والوقوف معه، خيفة أن تقتنصهم العيون الزجاجية التي تحصى كل
حركة ولهاث كلمة. كانت حديقة المنشية بشجراتها الضخمة ذات الرفات
الاستوائية ملاذه في الأصائل والأصباح الخريفية. أقعى ذات يوم على مقعد في
الظل، واسترسل في تأملاته، غاص في بحران الماضي، جلس الصوت الخفي وراءه،
متلفعاً بالسواد، اشرأبت الطفولة الأولى من مكامنها، ولحقتها نزوات مرحلة
المراهقة ومحاولة قطف نجوم المحال، وتراءت غابة الشيخ إسماعيل في الأعالي
تغني بها الريح، وتنشر رائحة صوفية من الغضارة التي تتوقد ببصات النار،
وحبات البخور البلورية، وقفزت غويران الوطا من أوجار المخيلة ومغاورها،
وبرزت الشجرة.. التي ربط بها يوم محنته الأولى، وأزَّت قضبان الرمان فوق
جلده وأكلت منه شقفة ، وامتزجت بهمهمات، والد خضراء مبارك وزعيقه المنتقم.
وانزاحت أتربة الماضي، وتداعت الصور كأنها شريط سينمائي حدث البارحة،
وتساقطت وريقات من الشجرة الضخمة، التي تبدو شروشها الحلزونية كأنها ما موث
ما قبل التاريخ، واستفاق على أقدام رشيقة تدوم صمت الميشية في ذلك الصباح
الخريفي، وتلامح امرأة كهلة تمسك بيدها اليمنى سلسلة لامعة، ربط بها كلب ذو
فرو أبيض نظيف، يبرز في شكله الدلال والعناية الفائقة. جلست على المقعد
الخشبي بجوار الجذع الكبير تحت الشجرة الفارعة، كانت تضع على عينيها
نظارتين سوداوين، وترتدي فستاناً هفهافاً ورسيَّ اللون يحاكي سنابل القمح
في طقس الحصاد، وتغطي رأسها بشال بنفسجي، وكانت معالم جمال غارب ترف على
وجهها الغجري السمرة الذي ينتهي بشفتين عنابتين ما زال اللعس القديم
يكتنفهما بشهوة التقبيل. حدَّقت إليه المرأة الكهلة، وأزاحت نظارتيها عن
عينيها الخضراوين اللتين ما زالتا تومضان بغسق الأيام البعيدة. اهتزت بحيرة
الأعماق، تكشفت المرتسمات كلها التي كانت في غيابة القاع، زحفت غويران
الوطا وغابة الشيخ إسماعيل إلى قحف رأسه بشكل فاجعي، وغمغم ينبوع الصنوبر،
وأصدت بحار الناي القصبي، وتجمع الماضي في بؤرة مكثفة، ولاحظ أن شفتيها
ترتجفان، وعينيها تغيمان في دموع مسمرة، والزمان تكدس في رعشها، والمكان
أنفنى في حضور مدهش. انفلتت السلسلة من يديها، أعتقت كلبها من قبضتها،
ليسرح في مرجة الحديقة وبين المقاعد الخاوية، نهضت في ولهٍ بائن، لم يكن
يخطر ببالٍ غيلان الجعفي، وتلاقت الأصابع في سلام دافئ، وهزَّت يده في
حميمية غير مرتقبة، وغادر مقعده، وجلسا معاً، كلٌ على طرف المقعد الخشبي،
تحت ظل الشجرة الاستوائية، التي غرست منذ أكثر من نصف قرن، غدا يتقراها عن
كثب، يفلي تضاريس وجهها، يقابل بينها وبين خضراء الماضي، التي غادرها منذ
زمن ترامى إليه سحيقاً كالهوي المصلته، ليتملى ما يتركه الزمن فوق ملامحنا
وأوعيتنا الجسدية وتراكيبنا النفسية، ويجهض فينا ما نسجنا من خيوط الأحلام
الفضية، وما حكناه من الأماني المتوهجة التي أطفأتها رياح الحياة وتصاريف
الدهر، وأكداس المعاناة. وأوغلت عيناها في خريطة وجهه المنزوف؛ هالها الرعب
الكوني المترشح منه، وانحطام الوعاء الجسدي الذي كان يتباهى به؛ الشعر
الأسود المسترسل على جبهته استحال صلعة ربداء، لم يثبت عليها إلا بقايا من
شعيرات، كأنها وريقات تين في أواخر الخريف، العينان الصحراويان الشديدتا
الحوّر، صارتا بصيص حباحب في عتمة كابية، والجسد المراهق الذي كان ينزو
قابلية للعشق، واحتضان العالم، ويضج نايه بنغمات المحبة والامتداد، عصفت به
شيخوخة مبكرة. جالت بعينيها الخضراوين في الآفاق، والتقطت البحر الذي
تراجع عن شاطئه، وتحجرت ومضة خضراء مسكونة بالحزن، وندَّت عنها حسرة
وقالت:‏


- إنك
تغيرت كثيراً يا غيلان، استحلت رسماً آخر، ما كنت أتصور أن الزمن يضع
بصماته على وجوهنا بهذا الشكل المخيف، حتى نكاد لا نعرف بعضنا.‏


واختارت
ضمير الجمع حتى لا تفرده وحده بهذا التغيير الضاري، وتمدَّ النصل أكثر
عمقاً. شعر بعطف شديد على نفسه التي استطاعت أن تتحمل كل هذه الفظاعات
والممارسات السادية التي مارسها الآخرون عليه. نشر من حوصلته المقيحة
بالقهر والقمع عبارات متوجعة:‏


- أتسمعين بأيوب النبي المنشور في الحكايا الدينية العتيقة كرمز للمحن والصبر والبلوات.‏

أحنت رأسها بالإيجاب قائلة:‏

- حكاية
بلواه ومحنته، تشربتها ذاكرتي منذ كنت يافعة، ولقنني إياها عمي الشيخ محمود
مبارك مرات عدة من كتبه الصفر، وما زلت أذكرها بتفاصيلها.‏


تنهد غيلان الجعفي تنهيدة طويلة، مذبوحة بالمعاناة التي لا تحد؛ وهتف:‏

- أنا أيوب
هذا العصر، لكنني لست بنبي، تقشر جلدي تحت جلد السياط، حدثت صدوع متغورة
في بنياني النفسي، تصوري أني مكثت عاماً كاملاً وحدي في زنزانة منفردة.
الليل أبدي العتمة، والرطوبة والصقيع الشتائي، والعزلة، كوابيس همجية قلما
يتحمل قهقهاتها الذئبية النوع البشري، إلا ويصيبه المس. كنت أمضي الليالي
والنهارات التي لا أميزها، في استعادة ما احتوته ذاكرتي من أشياء وتركيبه
من جديد بملايين الصور، اعتصر من الجدران السميكة، والكوى الضيقة، والضجة
الخارجية لصوت الإنسان في الزنزانات الأخرى، قابلية للتحمل، والاعتقاد بأني
لم أفقد كل عقلي، ووعيي بأني موجود من خلال تداعياتي.‏


اجتاحت
رحمة إنسانية، عروق خضراء مبارك، شعرت بأن يد بدائي من عصور ما قبل
التاريخ، تعتصر قلبها، وتمتد إلى خناقها، وأن جسدها يستحيل ريشة في مهب ريح
سوداء. أرادت أن تخرج من داومتها ومن نفق الأحاسيس، فأخرجت سيجارة من علبة
مارلبورو أنيقة، ودستها في فمها، وأشعلتها في حركة عصبية بائنة، وأخرجت
أخرى وناولتها إلى غيلان الجعفي الذي اقترب منها ليشعل سيجارته، حتى أوشك
أن يلامس خديها، راحا يمجان الأبخرة في صمت الرنوات، ويتبادلان النظرات
المحمومة. تغلغلت مشاعر هانئة إلى شرايين غيلان الجعفي أحس بأنه يتصالح مع
العالم لحظات وامضة، ويستحم في ضحى ربيعي بأفواه ينبوع الصنوبر، ويعرج على
مروج فاقعة الحمرة من شقائق النعمان تلتمع شفقاً مدمى، وخضراء مبارك تقطف
باقات من هذه المروج الممتدة، وتتمسح بشفتيها اللاعستين فوق تلك الوريقات
الناعمة، وتمررها على خدها الأسيل، أوغل في مؤقي عينيها من جديد، تأمل مدى
الغواية التي بهما؛ ليلتقط جزيرة وسط خضم الحياة المضطرب القلق، حاولتْ أن
تسكب رنواتها الحانية فوق روحه المعطوبة، لعله يسترد شيئاً من إيمانه
بالآخرين. كانت تحاول بتماديها معه أن تنتشله من دوامة الطاحونة الوثنية
التي عركته على دولابها أزمنة لاهثة بالعزلة والتصدع والارتطام باللاجدوى،
قشة طافية لا وزن لها، أحلام يقظة مرتدة إلى المهاوي السحيقة، فسألته تساؤل
العارف:‏


- أتسكن القبو الأرضي في العمارة ذات الطبقات السبع، الراكنة هناك وراء المندوبية؟‏

وأشارت إلى
البناية التي تتراقص فوق شرفاتها المطلة، شعاعات الشمس، ويلتمع خط الزرقة
الذي يزنرها، ويظهر من أفاريزها الأنيقة. أجابها بصوت مرتعش:‏


- إنه قبوي
الأرضي الذي اشتريته مع حديقته، أيام العز قبل دخولي السجن، ولم يكن قد
اشيد فوقه إلا طابقان غير مُليسين، وبعد عودتي، فوجئت بهذه الطوابق السبعة
التي طمَّت بعلوها قبوي، ونفذ صخبها الدائم إلى كياني. لقد تعودت على
الانفراد والعزلة المتوحشة- يا سيدتي.‏


افتر ثغرها عن ابتسامة حزينة، وقالت:‏

- إن
شجراتك الكازورينا، التي ألاحظها تنمو كل عام، وتمتد رؤوسها حتى تلامس
شرفات طابقي الثالث، وتلقي بترنحات ظلالها في الظهيرات وأشباحها في الليالي
المقمرة، فأشعر بروحك تنساب في الخفاء وتلامسني.‏


- هل
تعلمين أني زرعتها منذ اثني عشر عاماً، وأتيت بفسائلها من مزرعة خاصة.
وكانت آنئذ رغبة تتآكلني، لأنقل الغابة الجبلية إلى هنا، وكان هذا محالاً،
فاكتفيت بغرس تلك الفسائل والورود التي ذوى أكثرها، وبقيت شجرات الكازورينا
رمزاً لحضوري الدائم بعد غيابي، بين الجدران السميكة طوال هذه المدة.‏


أوغلت بنظراتها في الصفحة البحرية البعيدة، التقطت مرتسمات زوارق صيد عند حد الأفق، غرغرت عيناها بدموع مسمرة، ولهجت قائلة:‏

- أعلم كل
شيء عنك، المراكز التي تسنمتها في الحزب الثوري، والوظائف التي تنقلت
إليها، وأيام عزك الغارب، وامرأتك المدّرسة الشامية الأصل، وترديك في عتمة
السجون، أنا اخترت السكنى بجوارك منذ سبع سنين، وأترصدُ عائلتك من الأعلى.
زوجتك التي تنهض باكراً، وترتب البيت، وتذهب إلى مدرستها، وابنك البكر الذي
يعود آخر النهار متسخ الأثواب، يظهر أنه يعمل ميكانيكياً وينغمس في الزيوت
والشحوم. إنني أحصي أيام سجنك المديدة، وأتفحص الوجوه الغريبة التي تدخل
قبوك وتخرج بعد منتصف الليل. وبخاصة وجه شاب أحمر الشعر ذي عينين شديدتي
الزرقة، كنت أصادفه أحياناً على عتبة البناية، وأشعر بمقت له لا أدري
سببه.‏


انتفضت كل
غربان الشك من دهاليزها مع كلمة الوجوه الغريبة تدخل قبوي أثناء غيابي.
وامرأتي وحدها، تنهشها العزلة، وترعى بين فخذيها شهوة عارمة، وتتكوى على
جمرها الغريزي. سمع قهقهات الصوت الخفي، ترن في دماغه، فتقوقع مثل حلزون في
دائرة صدفته وهمس في داخله (الأوغاد انتهزوا فرصة غيبتي في العتمة، حاصروا
زوجتي بهداياهم ومعسول كلماتهم، عرفوا نقطة الضعف، نفذوا بلهيب غرائزهم
إلى صدوعها، تملوا عريها المشبوب، اعتاد جسدها المحاصر على هذه الأنماط،
صارت دمية بين أيديهم. ومن سقط مرة في مستنقع الخيانة تعود تكرار هذا
السقوط). تعالى صوته الداخلي حتى تناهى إلى آذان خضراء مبارك التي أدركت من
العبارة الأخيرة عاصف هذا العراك الذي يصطرع في أعماقه، وأرادت أن تخفف من
شكوكه وحيرته القاتلة.‏


- أرجوك.
لا تلق بنفسك إلى الجحيم، ولا تشوه ثقتك بزوجتك، حاول أن تحلل ظروفها،
وتتسامح معها في قسرية تلك الظروف، وقديماً هتف السيد المسيح أمام رجم مريم
المجدلية (من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر). تسمر الجميع أمام خطاياهم.
والتفت إليها مكملاً انهضي يا ماري، لقد غفر الرب لك لأنك أحببت كثيراً،
إذا احتجت إلى مساعدة، فزوجي يوسف مبارك وأنت تعرفه، قد أصبح يمسك زمام
المسؤولية، ويمنح التقويمات السياسية وبواسطته تدار الأمور.‏


نادت كلبها
فوكس، أمسكت بسلسلته الفضية بيدها اليسرى، وصافحت يد غيلان الجعفي في
رحمانية. راح ظلها يغيب وراء شجرات الحديقة، ووقع خطوات حذائها الجلدي، يرن
فوق الحجارة المرصوفة، وكلبها ذو الشعر الطويل يهتز فوق الحشائش، وأردافها
الإجاصية ترسم دوائر غواية وترف زائد. اكتسحت غيلان الجعفي خيبة ممزوجة
بالقهر، تداعت إليه حكمة قديمة (أغنياؤكم وذوو الشأن منكم في الجاهلية هم
أغنياؤكم وأولياء أمركم في الإسلام، ولا بديل لذلك). وأحس في تمزق بأنه في
منافي الربذة مع أبي ذر الغفاري تأكله الغربة وتحوش جسده رياح صفر ذات مذاق
رملي. تدفقت دموعه في صمت، أخرج سكينه الحادة من جيبه. غدا يحفر فوق
المعقد الخشبي في هيجان مأساوي (الطاحونة الوثنية خرائب الأزمنة) ويكرر
قراءتها مرات كثيرة وفي كل مرة يبرز حرفاً كان مطموساً. ولما انتهى من طقسه
التراجيدي المشحون بالأسى والأسف على نضاله الطويل الذي قطف ثماره الأغراب
ووجدوا أوان الحصاد، فاستحصدوا ما زرعه بدمه، وشقائه. رجع إلى قبوه، يجرجر
أقدامه وأطلال عمره. وقد صمم أن ينهي هذه المهزلة، ويعود إلى قريته عين
الغار يبني حياة جديدة، يتوازن فيها مع الطبيعة والجبال، ونهر السبع،
ونجيمات المساء، وقبة الشيخ نجم الريحان. التي لم يغمرها التلوث، ويحتضن
أمه/ وطفا/ التي تنتظره هناك على مطلات الشيخوخة وشعابها، ويهجر العالم
البشري الذي مدَّ خناجره إليه، وأخلف بوعده له، وعركه بسجونه الطويلة.‏


***‏

انسلت
أفاعي الشكوك، إلى البنيان النفسي لغيلان الجعفي، وغدت تنبش بأنيابها السود
كل ومضة من الثقة بامرأته، وقبعت غولة مترصدة، وراء كل حركة تثيرها رابعة
الشريف. المرايا التي تنظر فيها لتتملى وجهها، وترش عطوراً أنثوية فوقه،
صارت تثقبه من الداخل، بارتعاشات مريبة، وتساؤلات محاصرة. وقلم الكحل الذي
تجيله في أنيس عينيها وأهدابها، ليرسم آفاقاً من الغواية التي كانت تحلو له
في ماضيات الأيام، أمسى خنجراً يحزُّ في لحمه، ويثير أعصابه حتى الجنون.
وانحسار الفستان عن فخذيها السمراوين، اللتين كانتا تسحرانه فيما مضى، تحول
ضحكة صفراء، تنقذف خلفه، وتتداعى خواطر محزنة، تنزلق في شرايينه حوارات
داخلية هامسة: "كم على برزخ هاتين الفخذين تأرجح أناس ، أثناء غيابي، وعروا
ينبوعها البدئي، وأنا مطروح في الزنزانات المقيتة وترسبات العتمة، أمثال
ذلك الوغد ذي الشعر الأحمر والعينين الزرقاوين). خرج من حواره الداخلي، ضرب
على رأسه ضربات مجنونة، هرب إلى غرفة النوم، تمرغ بوجهه في اللحاف، راح
يجهش ببكاء صامت، ويرتفع صدره بزفرات لاهبة، وانقلب على ظهره، وأغرق نظراته
في الحوار الحائل. طالعته خيوط عنكبوت في الزاوية، وفي الشق الرطب، تلامح
عنكبوتاً تدور فوق الزاوية، ترسم خيوطاً واهية لتجد صيدها. تصور أن الآخرين
عناكب يزحفون إليه، والعالم شرك من الفخاخ المنصوبة في غابات الأحياء،
لاصطياد ما يمتلكه، وأنه يستحيل مسخا، ويتقمص رتيلاء تزحف فوق أطلال مدينة
مهجورة، في صحراء لامتناهية الأطراف. سافر بعينيه المتعبتين إلى صورة مسمرة
فوق الحائط، صورة زوجته في بواكير شهر العسل، يده اليمنى تحتضن الخصر
الأنيق، ووجهه المغرق بالسعادة، يتشرب ملامحها، ويطوف حول شفتيها
الممتلئتين بشهوة الاعتصار، وانبثاق غريب بلون الشوق كان يسطع في الصورة،
يضفي عليها غواية مستحبة. كم غرق في جمالية هذه الصورة الممزوجة بزمن
الخابور، وهينمات الضفاف، ووقف أمام عريها الجميل، يوم كانت رابعة الشريف
تسكن مخيلته طيفاً عذباً، يقيه غوائل ما أبقته مأساة حبه الأول. بيد أن
إبحاره في هذه الصورة غدا يفتق حسرات لا قرار لها، ويخلق دوامات من خيبة،
وفزاعات دروب مظلمة. نظر الصورة كالملسوع. غار في داخله، مترنحاً كالقشة
اليابسة في مهب ريح شرقية. وحاور نفسه في تمزق: (لماذا أنت أيتها الصورة
تحملين إليَّ اليوم، مذاق الأشباح المفزعة، وكشكشة الأفاعي الملساء في
شجيرات الديس البري، وتبثين في مخيلتي تصورات فحمية، عن السقوط الإنساني،
وتنشرين أمامي رذاذاً موحلاً يتنزى في عروقي طريقاً محاصراً حيال المستقبل،
آه- آه! كم كنتِ- أيتها الصورة - عزيزة على قلبي!؟ كم كان يسكنك الوجد
الخضير، والحب الموله، وترف في ثنايا جسد صاحبتك، الأحلام المترفة،
والمواعيد الخضر باقتناص الجسد الفائر، ووليمة نوافير فجواته البضة السرية،
وملامسة رواسبه وسفوحه الناعمة. كيف استحالت عينا صاحبتك الغويين،
وأشياؤها، الساحرة، إلى خواء صقيعي، تعشش فيه كوابيس الشك؟ وكيف تحولت
رمزاً لشقائي. ووسيلة لتعذيبي). لطم رأسه بالجدار لطمات قاسية، انفجر دم
دافق من بعض جوانبه. نهض كمن تلبَّسه شخص ممسوس، خلع الصورة من موضعها، راح
يحطمها في انتقام دفين، ويسكب دمه المفجوع فوق مرتسماتها، ليغيب كل
ملامحها. سمعت رابعة الشريف أصداء ذلك الحطام، أذهلتها المأساة، شعرت بأن
ليل الشكوك ابتلع كل المعالم، وكنَّس بعتمته كل ضوء للمعاشرة ومتابعة
الحياة. انحنت في إشفاق مهلوس على جروحه الدامية ورأسه الذي كان يقطر دماً،
وأحضرت شاشاً أبيض، وضمدت تلك الجروح، ورمت بالصورة المهشمة في زوايا
الغرفة حتى لا تصب الزيت على الحريق، وانبرت تمرر بأصابعها خلف رقبته كما
كانت تفعل في الماضي يوم كان يثور ويتفجر غضبا. أنهضته من كتفه، أو سدته في
السرير القديم الذي شهد شهر الزواج الأول، وصرَّبر فَّاسه تحت إيقاعات
جسديهما الفائرين اللذين كان قيثارهما يرسل أجمل أنغام الرضى، وإغماضة
اللذة. حملقت بعينيه المشحونتين بكل الألم الإنساني، وقالت في تحسر:‏


- يبدو أنك
لم تتصالح مع نفسك، وتتكيف مع واقع جديد. خيالاتك السود تدور في رأسك،
بأني اقترفت جريمة لا تغتفر أثناء سجنك، ولنفرض جدلاً، أن ظروفاً خارجة عن
قدرتي على الاحتمال، حاصرتني، وأسقطت من طهارتي أليس هناك كفَّارة بألا
تخنق كل بريق للعيش معاً، وتجعل ظلمة راسبة تأكل كل توهجات عزيزة علينا،
ماضينا ليس ملكك وحدك حتى تشوهه. إننا غزلنا خيوطه معاً في زمن عصيب، منذ
تعارفنا في قرية العثمانية. وكان أخي الذي قضى نحبه، بمثابة الجسر الذي
أوصلني إليك، وتحدى كل الأعراف. وتعرف إلى أي مدى كان يؤثرك - غرغرت عيناها
بالدموع، غطتهما براحتيها حتى لا تظهر كلَّ وهنها وانسحاقها أمامه. خيمت
سكينة قبرية. طفا تصميم صخري على إنهاء مأساة غيلان وتسلقته إرادة مصممة
على التغيير، وتجاوز واقعه الانتحاري، انحسر فستان رابعة الشريف إلى
الأعلى، ولعلها فعلت هذا الانحسار، لأنها تدرك نقطة ضعفه ولم تكن ترتدي
شيئاً. واستبان زغب الفجوات الطرية الذي كان يثيره. غير أن قرفاً بلون
الغثيان والتقزز قفز إلى مخيلته، وتخيل الأحمر العينين الزرقاوين، يدغدغ
هذه الفجوات، ويتملى حناياها في غبطة من يختلي بامرأة جديدة عليه. لم يطق
صبراً، دوّامات بشكل الهوس هوّات فاغرة ورمادية تناديه ليرمي بنفسه في
قاعها الصخري المدبب. خنجر بدائي يلطو في قعر ذاته، يتربص به. شيء قذر
يتنزى حيوانية، يلطخ شرفه، ويعتصر امرأته، ويشغل غيابه. المخيلة راحت تضخم
الأبعاد، والحركات والأنات، وصرير السرير يحمل تواقيع جسدين سقطا في
الخطيئة. لم يقدر على حصر تلك الصور في قارورة، بل انفجرت كقيح أصفر في
دملة خبيثة. صرخ كالمجنون. قهقهات الصوت الخفي، صارت نواقيس جنائزية ونعيب،
غربان في فلوات مهجورة، اندفع إلى رقبة امرأته ليخنقها. ولكنها غادرت
السرير، ووقفت في الزاوية، مذعورة. وجأر كذئب جريح:‏


- آن
الأوان، أن ننفصل، لا حيلة لي في هذه الأشباح التي تلاحقني، سأنحر زرقة
العينين المنغرزتين كنصل لئيم في أعماقي. حاولت أن أجد مسوَّغاً لتلك
الشهوة التي سكنت جسدك، وأنا في غياهب السجن، غير أني ارتطمت بتكلسات مدلول
الشرف الشرقي وتابو المحرمات، وفكرة أن استحيل ديوساً، ومسخاً ذليلاً.
كوابيس بطعم الحنظل تتآكلني. من سوء الحظ أنك ظللت عقيمة طوال هذه السنين
التي كنت تداوين عقمك، ولم تنجبي إلا في هذه الفواصل الزمنية القذرة.
وابنتك لا ابنتي حصيلة تلك المأساة، وغرابية سوء الطالع. وليست المرة
الأولى التي أطعن بها. طعنت في حب قديم، وغدرت بي صاحبته. طعنت في نضالي
وأودى بي إلى الهلاك والتمزق، وخانني أعز الناس وتخلّوا عني، وابتلعت ظلمة
السجون كل بريق تفاؤلي بالتغيير، أنت طالق ثلاثاً، ثلاثاً، ثلاثاً، فارحلي
عني وخذي ابنتك معك. وآخذ ابني ناصراً معي. وسأعود إلى أمي وطفا ومرابع عين
الغار. وأبيع هذا القبو، وأحاول أن أتكيف وأتوازن مع بقية البراءة في
الطبيعة الحانية، وبين سفوح الجبال البعيدة.‏
</td>
<td valign="top"> </td></tr></table>


</td></tr></table>

</td></tr></table>
جذور العرب
<table width="100%" cellpadding="0" cellspacing="0"><tr><td class="posticon" bgcolor="red"><table width="100%" cellspacing="2"><tr><td class="posticon">
06:11 - 06/20</td><td class="posticon">خرائب الأزمنة الفصل  19 Icon</td><td class="posticon">خرائب الأزمنة الفصل  19 Icon</td><td class="posticon" width="90%">
</td></tr></table></td></tr></table>
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://starlook.alafdal.net
 
خرائب الأزمنة الفصل 19
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خرائب الأزمنة الفصل 14
» خرائب الأزمنة الفصل 15
» خرائب الأزمنة الفصل 16
»  خرائب الأزمنة الفصل 1
» خرائب الأزمنة الفصل 18

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ستار لوك :: الروايات-
انتقل الى: