منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ستار لوك


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خرائب الأزمنة الفصل 20

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
BaSmA iBrIz

BaSmA iBrIz


انثى عدد المساهمات : 1387
تاريخ التسجيل : 04/03/2011
العمر : 25
الموقع : /https://starlook.alafdal.net

خرائب الأزمنة الفصل  20 Empty
مُساهمةموضوع: خرائب الأزمنة الفصل 20   خرائب الأزمنة الفصل  20 Emptyالخميس 23 يونيو 2011, 14:40


الفصل العشرون

التمركز في عين الغار‏

انشطرت
الأسرة بلون الأشداق الفاغرة إلى شطرين ممزقين. وعادت رابعة الشريف إلى لحف
جبل قاسيون، لتمضي بقية عمرها هناك مع ابنتها، تحركها دوَّامات الذكرى.
وغادر غيلان الجعفي المدينة الساحلية التي كانت شاهداً على المأساة في
الجانب الإنساني. بعد أن باع قبوه وحديقته وذلك بصحبة ولده ناصر. وألقى
بعصا الترحال وثقل الماضي في مرابعه القديمة في عين الغار، عند أمه وطفا
التي تخبو شمعة عمرها نحو المغيب. ووضع كل ما جمعه من أساس بيته وفرشه في
سيارة بيكآب. بعد أن منح زوجته كل أدوات الكهرباء والأشياء الثمينة. وأزمع
على أن يتقشف، ويبعد إفرازات المدينة عن حياته، ويعيد صياغة ذاته، ويحاول
أن يرتق تلك الصدوع العميقة التي أحدثتها صروف الزمن في كيانه، وينظم
بوَّابات لا شعوره، ويغلق سراديب تلك الهواجس الخفية التي تنسرب بشكل
كوابيس مخيفة، تدفعه أحياناً بلا إرادة إلى أقرب هوة سحيقة ليرمى بجسده
فيها. تتلاعب بمصيره أحاسيس انتحارية، لا يدري كيفية انقذافها كحمم نارية
تسري في دماغه. كانت لهفته إلى مرابع عين الغار تطفو كرغوة صابون ساطعة،
فوق تلك الأحاسيس الداكنة، فتغسل من عفونتها، وتخفض من حدتها الانتحارية.
بعد أن مرت عشر سنين ونيف، لم يتمرغ بعتباتها، ويشمّ رائحة سفوحها
وأحراشها، ولم يُتح له أن يحضر وفاة والده الشيخ الذي تناهى إليه نعيُّه
مؤخراً وهو في ظلمة السجون، راحت البيكآب تنهب الأرض، وتتراكض خلفها القرى
الساحلية، والطرق الإسفلتية تلتوي أفعوانية. والبنايات الجديدة تتسلق
السفوح والتلال ويلتمع قرميدها الأحمر أمام شعاعات الشمس، ويمتزج مع
تمايلات الظلال الخضر في سنفونية منقولة من الأرياف الأوربية. تملكت الدهشة
غيلان الجعفي وهو يلتقط مرتسمات التطور في البناء الحديث وظهور طبقة جديدة
من المترفين والتجار الذين اغتنوا على حساب الشعب، حتى عرَّج على قرية عين
الغار، واجتاز الجسر الكفري فطالعته الأبنية العصرية في الحارة التحتانية.
آل الغشيم تمدمدوا في المكان واختفت بيوت الدش، وحلت محلها المباني
القرميدية الزاهية بلونها الخمري. وغابت المزابل، لتبدو محلها حدائق مزروعة
بحقول التفاح والكرز، وبرزت حارة بيت الصوّان في أزهى جمالها، قصوراً ذات
طابقين بشرفات ذات أنماط غربية، تسورها حدائق من الورود، وغابات من الأشجار
المثمرة والممرات المرصوفة بالبلاط والحجارة الناصعة البياض والواجهات
المرمرية التي اقتلعت إما من مقالع إيطاليا، أو مقالع البتراء الأثرية في
الأردن، وامتدت عائلة بيت برقروق حتى موازاة النهر، السيلي من الجهة
الغربية. وانتهزت كل من العائلات الثلاثِ الفرص السانحة لكسب المال غير
المشروع، من تهريب البضائع من لبنان، والمتاجرة بالمخدرات، واستخدام المنصب
والثراء العجول كآل الصوان. كانت سيارات فخمة تجثم أمام تلك البيوت وسلالم
فضية اللون تلتمع مزهوة بأناقتها. والطرق الإسفلتية تلتوي كخيوط سود توصل
القرى فيما بينها. وأصابه الذهول من أن غابة السنديان التي كانت تحيط
الحارة التحتانية قد اقتلعتها الجرافات وانغرست مكانها مزارع الفواكه
والتفاح بأنواعهما المتعددة، وكانت قصور رامز الصوان وأخوته، أكبر المباني
زهواً وامتداداً، كأنها في تصميمها طائرات شديدة الضخامة، تريد أن تطير
بأجنحتها الصخرية، صوب الأودية والأماكن المنخفضة، وكان رامز الصوّان قد
ذاع صيته في الناحية، وارتفع في سلم الشهرة والغنى فأغدقت عليه الدنيا
بالأموال والمهابة. والدنيا إذا أعطت أدهشت وإذا أخذت فتشت، وصارت الركبان
تقصده، تداولُ اسمه، وقد شق الطرق الجبلية في معاصي الشعرا، وارتبطت عين
الغار بغويران الوطا. وتقاربت المسافات بين القرى التي كانت مقطوعة،
ومشرورة في تلك الشعاب. وأقيمت الاستراحات على مطلات مشرفة، وازدحمت ضياع
الجرود بالوافدين. وخلعت نساؤهم الزي القديم واللباس الطويل وطغت موضة
العري في تقصير الملابس فوق الركب. والتمعت الأفخاذ النسوية في وجه الريح
والشمس، بعد أن كانت مغطاة بالاحتشام. وحملت فتيات الجرود الأزياء
الأوروبية إلى نهودهن وأردافهن، وتزيين وجوههن بالمكياجات الغامقة، وتظليل
أهدابهن ورموشهن، وتكحيل عيونهن وإبراز مفاتنهن وشد خصورهن بلا وازع ولا
خجل، وسرت تقليعة العري الغربي إلى تلك المناطق التي كانت نائية عن
الحضارة، ولكنَّ التغيير بقي على السطوح الخارجية والمظاهر القشرية دون أن
يتغلغل إلى الجذور، ومكث على السطح كتقليعات طافرة في تنويع الطعام
والتباهي به، وفي الألبسة التي كانت تأتي تهريباً من الخارج. وزحمت
السيارات بموديلاتها العصرية كل واجهة قصر واستراحة في عين الغار ومطلات
فاتنة في مناطق الجرود. ظلت ثلاث نقاط من هذه القرية، لم ينفذ إليها
التغيير لا في السطح ولا في العمق إلا قليلاً؛ حارة المشائخ في أقصى
الجنوب، والبيت الترابي الذي يجاور المقبرة، ومغارة سويلم الدرويش وجوارها
ضامةُ، أيوب السارح الذي لم يضف عليها إلا غرفة منحوتة بالصخر، ومطبخاً
مقبباً بالتوتياء، كان الوقت عصراً. وتشرين الخريف ينفخ بنايه بين الشعاب،
حين أقعى غيلان الجعفي وابنه ناصر على المصطبة الترابية، وأنزل أمتعته
وفرشه وأغراض بيته، التي لملهما بعد عراك طويل مع الحياة، كان الباب
مقفلاً، ورائحة بخور تتصاعد من المقبرة فهيجتْ فيه هذه الرائحة ذات الطعم
الغيبي دوائر الحنين إلى مقابر الماضي، وسطعت ذكرى والده المتوفى مع رفات
تلك الرائحة، وأسرع صوب المقبرة كالمهووس الذي غابت عنه الجهات، فتراءى له
قبر ترابي وشجيرة ريحان نامية، تظلل القبر وغضارة حائلة مكسورة من طرفها،
يتصاعد منها البخور، وامرأة كأشباح المقابر في المخيلات الشعبية، تعتمر
بإزار أسود، وبثياب سود، تركع بجانب القبر، تقطف أغصان الريحانة الغضة،
وتغمسها في تراب القبر، وتحرك بعود صغير جمرات الغضارة ليندلع عبق البخور
في تلك الأجواء الجنائزية، كلما خفتت دوائره النارنجية. سمعت وقع خطا
وراءها، حملقت بابنها القادم الذي لم يشاهدها منذ عشر سنين ونيف. اهتزت
بحيرة الأعماق، ارتعشت أمواج الأيام في الداخل، ارتجفت يداها ارتجافات
الظلال المشبوحة في الليالي المقمرة، صعقت من هول المفاجأة، فتحت ذراعيها
الناحلتين، ارتمت في حضنه، انهمرت الدموع المحبوسة، بللت الخدين، راحت
تعتصره، تشمه، تدور بأصابعها حول وجهه، تتقراه في حنو مجنون، تضمه في لهفة،
تشعر بأنها تلده من جديد وتتمخض به. أنات كاوية بلون الهجران البعيد،
والنأي الممتد كالليالي الكانونية، تفجَّرت من صميم الأم وطفا، ولامست تراب
القبر هامسة:‏


- هيك يا
ابني- بيموت أبوك ولا تشوفو، ولا تحضر موتو، وحق هاالقبة، شفت نجوم الضهر
بغيابك، لولا أختك سحاب القريبي مني، واللي تسعفني بكل شيء لكنت هلكت من
زمان. وبنتي التانية رباب هاالبعيدة، الساكنة بلاد المغرب، مع زوجها، نبيل
السواحلي: بتمدني بالمال، بواسطة أيوب السارح اللي رجع من مدة، وصار عندو،
شلعة أولاد، واشترى حاكورتين بلحف الجبل، ودوماً بيسألني، عنك. وأبوك، الله
يرحمو- اشترى ها الحاكورة الشايفا من المساعدة، والزكاة. زوجتك وين هي ما
شايفتها معك؟‏


سافر غيلان
الجعفي بعينه في تعاريج جبال الشعرا، وارتد بطرفه إلى مرتسمات عين الغار
الجديدة، تلامح شعاعات شمس الأًصيل تنعكس فوق زجاج قصر رامز الصوّان وتشتعل
براكين أسطورية من اللهب، فانتابته عاصفة من البكاء والإشفاق على نفسه،
شعر بأن القرميد الأحمر الذي يسقف بنايات الحارة التحتانية، ينفذ إلى دماغه
شرارة حمراء، تغلي في قلبه حسرة كاوية، على أنه ناضل من أجل رسالة، زرع
أجنتها، سكب فوقها نجيعه لتنمو، وارتمى من أجلها في غياهب السجون، وتصدع
بنيانه النفسي في غيابة الجب الانفرادي، وترك امرأته، وابتلعته الشكوك
ببراءتها، وانتهز الآخرون شجرة الرسالة وتسلقوا عليها، وقطفوا ثمارها،
واستلبوه كائناً مهشماً، مرمياً في خواء الغربة، والحصار الدائم، كنفايات
عفنة لا جدوى منها. أحس بدواليب الطاحونة الوثنية، تدور به، تدوَّمه، وأن
الصوت الخفي ينبق في أوجاره المعتمة، ليلسعه بسياطه المحرقة. خشي أن تلاحظ
أمه شيئاً من حاله الغريبة. فكَّ ذراعيها عن رقبته، نهض كمن به مسٌّ، حملق
في صفائح القبر الداكنة، وقال في غضب مفاجىء:‏


- عودي إلى
البيت يا أمي. أدخلي أغراضي إليه هناك ابني ناصر ينتظر فوق المصطبة. سأخلو
إلى نفسي قليلاً. وأنخل همومي في صمت خاص. وأصفي الحساب مع ذاتي..‏


انفتل يركض
بين القبور، يحاول أن يبعد تلك القهقهات الضاحكة من خلفه، والصوت الخفي
يلاحقه في شراسة ليمسك بتلابيبه العاقلة ويدمرها، لم يعهده من قبلُ بهذه
الذئبيّة والنفوذ إلى وعيه، ليغيبّه، تمسح بجدار قبة الشيخ نجم الريحان،
فتح الباب العتيق، وركع أمام الحضرة، احتضن القبر المقدس، انسكبت دموعه، في
غزارة، أغمض عينيه، خشخشت نسمات في وريقات شجرة البلوط المتساقطة بين
القبور. صرَّ باب القبة صريراً مهيباً، وانغلق، محدثاً صدى، زمزمت بعد ذلك
سكينة عميقة. انسرب إليه إحساس أمين بأن روحاً أثيرية تحنو عليه، وأن
التصدع العميق، يخفت شرخه الشاقولي، وأن الشيخ نجم الريحان يرسم دارة من
الشفافية والوهج الروحي، تكنس الضبابة السوداء التي كانت مخيمة على ظلمة
أعماقه. صفاء عجيب يغسل الرذاذ القاتم. وصحو متفرد يتمشى في شعاب ذاته،
فيهمس في داخله: "سأغير من هذه التراجيع المفجعة التي قذفني بها واقعي
المُنهَك، المرتبطُ بنسغ ماضيَّ، وممارساته المرعبة، وصدوعه البشعة، سأفتح
كوىً أمام عوالم أشد نصاعةً، وقابلية للامتداد الروحي، سأجربُ بوارق فوق
جسدي، وماديتي الكثيفة، لعلي أجد فيها منارات ملمعة تقيني غوائل التصدع
النفسي". تسلقته أحاسيس جديدة ذات مذاق صوفي، تلمَّس حوش القبر المغطى
بأثواب خضر، فسرت فيه قشعريرة آتيةٌ من أبعاد خفية، وشعر بأن القبر يستحيل
قلوباً تنبض تحت أصابعه، وأن شيئاً يمسه، وناراً غير محرقة، تنتفض في
عروقه، وميلاً إلى معانقة الوجود الرحب يتأكلُه، استقرت في خفاياه إغفاءة
هادئة، لم يذق طعمها منذ زمن بعيد، وهبط في نوم عميق، رأى نفسه غارقاً في
حلم: صحراء مترامية الأطراف، يعتصرها جفاف بلون العطش، لحوم بشرية متفسخة
يخرج منها الدود، عظام منخورة برزت فيها تجاويف اليباب، وفي واحاتها نسوةٌ
عارياتٌ، يضاجعهن أناسٌ بأشكال القردة، ويلحسون بألسنتهم حلمات النهود
الذابلة وفي جوانب أخرى، رجال قرقا شيّون ينضحون بالقسوة والهمجية، مدججون
بالسيوف والسياط، يجرَّون كائنات بشرية، تظللهم البراءة والضراعة، ويضعونهم
فوق الخوازيق المسننة كالحراب التي تخترقهم من الأسفل إلى أعلى رؤوسهم،
وفي الزوايا الرملية، أقبية سجون معتمة، ذات أبواب حديدية مطلية بالسخام،
تخرج منها نداءات مستغيثة واختناقات لزجة، وفي الوهاد التي أغبشت آفاقها
قليلاً انطرحتْ قطعانٌ من البشر، نساءً، ورجالاً، يتداخلون مع بعضهم كما
الطقوس القديمة في السفاح الجماعي. فانقبضت أعماقه في الحلم، واعتراه كابوس
مرعب، وغثيان مقرف، من الكهوف البدائية، واجتاحته شفقة قاتلة على النوع
البشري، وهو في طيات النوم. وأحس أن اختناقاً فاحماً، يتحشرج في نسغه ويكاد
يخنقه، وهو يستجير ويطلب العون ممن يفكه من هذا الكابوس الخانق، فتلامحَ
ذاته تطوي هذه الصحراء المغروزة بالقردية، ومسوخية الإنسان، وتقف على شاطىء
آخر نهر مغرق بالصفاء، تترامى خلفه جناتٌ شديدة النضارةِ، وعوالم مدهشة لم
يرها من قبل، وتراءى له الشيخ نجم الريحان بلحيته الثلجية، تبرق في عينيه
نجمة المساء الزاهرة، ويلتمع محياه بمهابة دهرية، ويمسك بعصا بيضاء، يرتدي
مسوحاً أخضر، يبث في المكامن الخفية كلمات لها مذاق تراجيع الأجراس البعيدة
في الغسق الغابش: "لن تجتازَ يا ابن الجعفي هذا الجسر الأزلي، وتعرجَ على
تلك الجنات التي تتشربها عيناك وراء النهر إلا إذا نظفتَ كوى حواسك،
وأعًدَت صياغة ذاتك وانسجامها، وتطهرتَ مما علق بك من رواسب تلك الصحراء
والتواءاتها الهائلة". استفاق على صرير الباب تفتحه أمه في لهفة، قفز إلى
بوابة نفسه شعور اغترابي، كمن ينام غروب الشمس في برية ولا يستفيق إلا على
همهمات الليل تصدى بها البرية الخاوية. وقفل راجعاً مع أمه، وهو يحتضنها في
حنو عجيب، ويهمس في مسمعيها كلمات كبيرة لم تفهمها ولكن أحست بقيمتها:
"ولدتُ من جديد في نومي يا أمي، اكتشفتُ عوالم رائعة البهجة وراء حواسي.
وأنا في حضرة الشيخ نجم الريحان، سأجربُ الوصول إليها، لعلها تمنحني
المصالحة مع نفسي وتقلباتها المريعة.‏


***‏

صمم غيلان
الجعفي على التعامل مع الحياة بمنظار جديد، بدأه بالحوار مع الأرض، وشرع
بتعزيل الحاكورة التي اشتراها والده أثناء غيابه، واقتلع الصخور المبثوثة
في تربتها، وأمسك بفأسه في همة بائنة، ينتزع الحصا الصغيرة،. يكومها في
الوسط، ويأتي ابنه ناصر ويلمها في قفة مطاطية، ويرميها خلف السياج الخشبي
الذي أقاماه معاً من الأغصان التي قصفتها الريح في الشتاء المنصرم. تناهى
الخبر إلى أيوب السارح فجاءه عند شروق الشمس، وهو يتعكز على عصاه المعقوفة
في أعلاها، تلحقه ابنته الصغيرة عفراء وهي تتمسك به في غنج. قرقَع عصاه فوق
صخرة السياج، لينبِئه بقدومه، أصدى الماضي بتراجيعه، قفزت الصور القديمة
من مدافنها، شبَّت حرائق الذكريات في غابة الماضي، راحت تحاصره، تلسعه بألف
لون، وتخبزه في العراء، تسمر في أرضه، رمى بالفأس من يده. فتح أحضانه بكل
اتساعها، ليضم رفيقه إلى صدره، انسكبت دموع متآخية من آفاق عينيهما، وبللت
خديهما المعروكين. صاح أيوب السارح في لوعة قاتلة كمن يمزق لحمه:‏


- الطاحونة
الوثنية، ضرَّستنا هذه المرة، بأنيابها، طحنتنا تحت دواليبها أنشبت كل
سطوة كلاليبها في بنيانا النفسي والجسدي. مرت قرون من الزمن النفسي، ولم
التق بك، ارتميت في الصحارى الكبرى لاعتصر منها الأمن واللقمة، تنقلتُ مع
الطوارق، ارتحلت في المكان، ضمتني مملكة أوباري التائهة في السراب. سكنت
مرحلة في "سبها" وعملت متعهداً، وتعايشت مع صهرك نبيل السواحلي في أقاليم
المغرب العربي، بعد أن هرب، وحكم عليه بخمسة عشر عاماً، وهناك في المدينة
الأثيرية /صبراته/ قد استقر معلماً، وصار له أربعة أولاد، واستساغ مرارة
الغربة والارتحال في شعاب المكان، بعد أن نبذه الوطن، أما أنت فوقعت في
غيابة السجون، ودفعت الضريبة غالية بلامقابل.‏


اعتراه
سعال جاف، اهتزت أصابعه، بصق في الأرض، أحنى رأسه في كآبة، استبان شعره
الأبيض. تفرس غيلان الجعفي في ملامح وجه أليفه، خد معصور كهفي السمات، شارب
أشيب بكامله، شفتان ذابلتان، فم حزين يغطي أسنانه الصفراء، جبهة مثلومة
شققتها محاريث الزمن، ظهر هزيل أخنى عليه مرور الأيام، فترك فوقه حدبة
شائخة كان كلما تقرى ملمحاً من ملامحه، قفزت صورة من مسار العمر ورجع
السنين إلى خاطره، أراد أن يفتت من عاصف الأحاسيس المقهورة التي ألمت به،
فالتقط بعينيه وهج أشعة الشمس فوق قصر رامز الصوَّان وتألق القرميد الأحمر
فوق المباني الحديثة في الحارة التحتانية، وغدا يقابل في مخيلته القصور
الشامخة الماثلة الآن مع بيوت الدش الترابية التي صارت من مقابر الماضي،
ويقارن الأسمال البالية التي كانت ترتديها بنات الحارة التحتانية مع
الفساتين الباريسية ذات الألوان الصارخة والموديلات الحديثة التي تلتمع فوق
"الفير ندات" المرمرية، وتضم أجساداً نسوية، وتبرز التماعات بضة وإفراطاً
متكلفاً في إظهار المفاتن. أخرج من حوصلته المقيحة وانبهاره الشديد بما حصل
من طفرات، كلمات ممزوجة بالغرابة والتساؤل المضني:‏


- سبحان
مغير الأحوال! كيف صارت الدنيا في عين الغار غير الدنيا، وتحولت أشياء
كثيرة في غيابي، وأثناء سجني وقد فاتنا القطار، وأصبحنا رسوماً من الماضي.
لكن يميناً لن أهزم. ما زالت إرادة الحياة منبثة في عروقي كمخالب نسر يريد
أن ينقض، سأتابع الشوط ولو على بقية رماد احتراقي.‏


ربت أيوب السارح على كتف غيلان الجعفي، نفض الغبار الذي علق به، أشار إلى الجسر الكفري وهتف:‏

- إنه
الحبل السري الوحيد الذي يربطنا، ويشدنا إلى التعايش المكاني، وتبادل
المصالح، وأن التطلعات الثورية التي نشرناها في قرية العثمانية وعين الغار،
استحالت أصداء خافتة، وتفاقمت عقد التعصب والحقد، وحلت غريزة التجمع
القطيعي محل التسامح والانضمام إلى الوحدة الوطنية، ونبقت خفافيش التاريخ
الأسود، وفتاوى الذبح والقتل على الهوية، من أوكارها المظلمة. وانطوى شعار:
الدين لله والوطن للجميع في غياهب الكره للآخرين وتكفيرهم.‏


بان ذعر
وأسف في ملامحه. لهث من هول الانفعال، كفنته خيبة. التقط غيلان الجعفي
رهافة هذا الخنجر المترصد الذي يطعن به الجرود، والفاجعة المغولية الآتية،
التي تنتظرهم، والمصير الداكن الزاحف من وراء جبال الضغينة، والعقد
المتورمة، وفتاوى التكفير التي تنبث في أحشاء العتمة لتسوغ إبادتهم
وتهجيرهم. وأردف في حزن:‏


- معنى ذلك
أن جماعة الجرود العرب لم يستفيدوا من تجارب الذبح والقتل الجماعي،
والتهجير إلى معاصي الجبال، والسبي العاري لنسائهم والمجاعات أو مذابح
التفتيش، والحصار التاريخي، والخوازيق العثمانية. ما زالت تلك الجبال
الوعرة، والمغاور المخيفة، والسناسل المقامة في تلك السفوح شاهدة على
مآسيهم القريبة. أتنطقْ تلك الحواكير كم اعتصر فيها من الجهد الإنساني
لتجمع كومات من التراب الصالح للزراعة. سلْ بيوت الدش كم من الأعمال الشاقة
والتعب الإنساني والموت انسكبت في أساسها‍‍! إذ نقلوا سواميكها ومدودها من
الرعوش الجبلية الحادة الانحدار، حملوا طينها من موشات نهر السبع، جروا
حجارتها الغشيمة من سفح المجنونة وانسحقت عظام بشرية تحت أعباء ثقلها. كل
شيء في هذه الشعاب ينطق بمسلسل العذاب والشقاء. ورغم كل المحن والمعاناة لم
ينتزع الجرود التعساء العبر والعظات، التي تقيهم غوائل المستقبل.‏


شفطت سيارة
مرسيدس سوداء في الحارة التحتانية أمام قصر عُقاب الجبل رامز الصوّان
الناهي في الديرة وتعالت ضجة ثاقبة ونزل مرافقة له، طوال كشجيرات الحور
الفتية، من سياراتهم المرافقة، وهم يحملون الرشاشات حول أكتافهم، والمسدسات
حول نطاقهم، يزمجرون زمجرة وحوش الغابة، فتح اثنان منهما الباب الخلفي
لسيارته. خرج عقاب الجبل رامز الصوان يتباهى كطاووس بعباءته المزركشة،
وخطوطها المذهبة. كان أميل إلى القصر والضخامة، عرفه غيلان الجعفى منذ كان
يافعاً، يقرأ في المدرسة التي افتتحت في عين الغار، ويمر بصهره المعلم نبيل
السواحلي ويستعير منه الكتب التي لا يقدر على شرائها من شدة الفقر، ويأتي
بصحبة أمه "عجوره"، ليحل له المسائل الحسابية المستعصية عليه. تسارعت لوحات
الزمن الماضي في نقلاتها، توقفت اللوحة عند رامز الصوان الفتى؛ برأسه
الصغير، وعينيه الواسعتين العسليتين، وأنفه الناتىء كصخرة في رعوش الشعرا،
وفم أشبه بأشداق الذئاب، تتراخى فوقه شفتان زنجيتان، تتقطر منهما رغبات
سادية مؤجلة. وكان أكثر ما يميزه عن التلامذة عرض منكبيه، وقدرته على
التحمل. كانت "عجورة" الأم من الملزق الشرقي؛ طويلة ممتلئة ذات عينين
ماكرتين، ووجه شديد السمرة، اكتوى بشمس سهول الغاب والعاصي، ووهج الأرض في
آب المحرق، ترود في صفحته الكامدة شامات ثلاث كحبات العنب الأحمر. وكان
أنفها البارز ذو المنخرين الواسعين، يظلل فتحتيه دغل من الشعر الفاحم.
وكانت تلمظات مكبوتة، ومؤجلة لاقتناص الآخرين، تظهر فوق شفتيها السميكتين
اللتين توارثهما عنها ابنها. كان جوع عام، يرقد في كيانها، جوع إلى التسلط،
والابتزاز وعبادة المال، وجعل الغاية تبرر الواسطة، وقد بثت في أبنائها
الذكور الثلاثة، مسار هذا السلوك: رامز راجح رامح، وبصقت في أفواه بناتها:
نورا- كوثر- عندليب. فجئن صورة عنها. وكان زوجها غالب يخضع لتأثيراتها،
ويعتبرها فهلوية في ممارساتها، فهي المسترجلة وصاحبة الحل والربط. ارتفعت
زخات من الرصاص أمام قصر آل الصوان، ودوّمت الصمت الخريفي في ذلك الصباح،
وجفلت الصور في مخيلة غيلان الجعفي، وأخرج سيجارة من علبته الممهورة بكلمة
حمراء، وناولها إلى رفيقه، ودسَّ الأخرى في فمه، وانقاد الاثنان إلى
المصطبة الترابية، وجلسا على كرسيين من الخشب بلي قشهما وأتت الأم "وطفا"
بإبريق الزوفا المغلي، على الصينية القديمة التي أهداها إليها الشيخ محمود
مبارك، تعلوها أربعة كؤوس صغيرة، ووضعتهما أمامهما وأقعت فوق إطار المصطبة،
وعبقت بها نيران الذكرى، وجرى في عروقها حنين متوهج إلى براري الزمن
الخالي، ومسارب غويران الوطا، وأطلَّ من قعر السنين شبح الشيخ محمود الذي
امتلأ الآن فمه بتراب الهجران، يزاحمها في الغابة المنعزلة، يوم كان الشباب
يضج في شرايينها، قابلية لاحتضان الوجود، وانخطافاً نحو المغامرة والتجدد،
وطفرت الدموع من عينيها، وعادت إلى واقعها الماثل، وحدقت إلى الشخوص
المترامية أمامها، ونقلت نظراتها في سماء مغرقة بالصفاء، وغمغمت قائلة من
وراء دموعها:‏


- شكراً
لك، ياها السماء البعيدة- ياها الكامن وراءها. شكراً لك، يا جارنا المقدس
الشيخ نجم الريحان - عاد الغريب بعدها السجن الطويل إلى بيتو، والتقى
الحبايب بعد طول غياب.‏


ضمت حفيدها
ناصرَ إلى صدرها، عانقته في وَلَه ظاهر مسَّدَ أيوب السارح شعر ابنته
عفراء تلمس نضارة وجنتيها، طبع قبلات على وجهها، طفت على سيمائه حسرة موجعة
وقال في حرقة:‏


- ياه!
ياه! ما أغرب مفارقات هذه الحياة! أأنجب أولاداً قاصرين وأنا في هذه السن؟!
عفراء ابنتي كان ينبغي أن تكون حفيدتي. أولادي الخمسة: سامر، سوسنة، سعاد،
سمير وهذه العفراء، ما زالت أعمارهم مشرورة بين السنين السبع وما بين
العشرين، يعتصرني دوماً شعور مقهور، بأن التقادير تلعب بنا، ترمينا في
متاهات التحسر على ما فات. ماذا يفعل هؤلاء القصار بعد موتي.؟ لولا أني
حوشت لهم كم دينار في غربتي واشتريت لهم حاكورة بجانب المغارة.‏


أحنى رأسه
في ضراعة، انقبضت أساريره، ارتعش فكاه، تداوله سعال جاف، أبرقت عيناه في
غضب، رمى ببقية السيجارة تحت جزمته، سحقها في ضراوة، كأنه يريد أن ينتقم من
شيء خفي، لاحظ غيلان الجعفي الانتحارات الصغيرة التي تلم بصاحبه، وبقبقات
السخط التي تغلي في مرجل نفسه، فنهض من مكانه وجلس بجانبه وربت على كتفه،
ومرر كفيه فوق شعره الثلجي، وخفف من غلواء زمنه المحاصر، وناداه كمن هو في
القفر:‏


- لاتخف
مما لم يأتِ بعد. أفعمت ذاتك بالتجارب، التقطت دروب العالم بسيرك المتواصل.
طويت مرايا السراب، وأخضعت معاصي الجبال حتى الأطلس ومغاور اليمن، وأكلت
قدماكَ من نواتىء الصخور، وتقشر جلدك مثل الأفاعي، وما زال الطريق أمامك
يحمل عدة اختيارات، غايتنا اليوم أن نمنع الانهيارات، ونردم الهوات بيننا
وبين أهالي العثمانية ومناطقها، ونقرع أجراس الخطر في مسامع الجرود لما
يحيق بهم من مخاطر، وبما يرسمه لهم زبانية رامز الصوان وأعوانه المتاجرين
بمستقبلهم، وبقائهم الذاتي، والمستفيدين من تلك اللعبة الخطيرة وننفخ ببوق
التآخي، ونعيد ما قوضته ممارسات التجاوز والخطأ، وندعم الجسر الكفري حتى لا
ينهدم التواصل فيما بيننا.‏


بان خجل
كريه فوق ملامح أيوب السارح، سرى نبض الشباب القديم في ذلك الجسد المعصور.
أشعل سيجارة، تأمل شعلة قداحته ملياً. ألصق شعرات ذقنه الشائبة في جدائل
ابنته الصغيرة، اشتم غرارة الطفولة، سافر بنظراته إلى تغضنات وجه الأم
واحتضانها حفيدها ناصر في رحمانية حتى لا تريد أن تفلته رغم تململه من
موقفها وأردف قائلاً باستحسان:‏


-ما قلته
بلغ حد الروعة، إنك غير قابل للفساد. آلاف الليالي كالسهوب الآسيوية،
أمضيتها في السجون والزنزانات، ولم تنل من رؤياك المتفائلة بالإنسان، ولم
تبعدك عن إنارة الزوايا التي أنت فيها. ما تراه من ممارسات ذئبية، ومفرزات
عقد النقص لدى أبناء الحارة التحتانية سيقذفك إلى المهاوي والكفر بالقيم
العليا ولو إلى حين.‏


زمرت سيارة
لاندروفر في المنعطف الصاعد إلى المقبرة، توقفت أمام بيت غيلان الجعفي.
نزل منها أربعة رجال مفتولي العضلات يحملون رشاشاً، وثلاث بندقيات روسية،
بادروا بإطلاق رشات، من الرصاص في الفضاء إرهاباً، تتلمظ وجوههم دناءة
وعبثية، يصرخ أحدهم في همجية:‏


- من منكم /غيلان الجعفي/؟‏

- ماذا تريد؟‏

- لتحضر فوراً معنا إلى قصر الأفنديُ.‏

ولولت وطفا الأم ضارعة، وناحت مستجيرةً:‏

- بوس أيديكم ما تجرجروه. تفقع جلده من عتمة السجون والقتل. ما لو مدة طويلة خارج من السجن.‏

أبعدوها عن
أقدامهم، دفروها حتى سقطت على حافة المصطبة، نزف فمها المشروخ، حاول غيلان
الجعفي أن يدافع عن أمه، لبطوه بسنابك أحذيتهم، نزلوا عليه لكماً، جروه من
ثيابه المتسخة، رموه في السيارة، حاول أيوب السارح أن يتدخل راجياً منهم
أن يطلقوه لكن عبثاً. درجت السيارة حتى القصر، اقتيد الأسير البريء إلى
قاووش تحت الأرض، حيث يسجن رامز الصوَّان من يشاءَ من مناوئيه في الناحية.
كان القاووش زريبة للبقر، تحل فيه العتمة حتى في الظهيرة، لم يكن له متنفس
إلا كوة في الجدار الشرقي. رائحة مزبلة تنفذ إلى خياشيم غيلان الجعفي،
وصوصة جرذان نتنة. لزوجة كريهة تخدش، إحساس بالتقيؤ انتابه، غثيان أصفر
اعتراه من خلال هذا المكان الجحيمي، تنقل في سجون الشيخ حسن، وتدمر،
والمزة، ولم يشاهد مثل هذا القاووش المرعب، تلمس الجدار اللزج، شعر بأنه في
بوابة العالم السفلي مع أورفيوس في أساطير الأولين. غمرته تعاسة وغضب
مقهور. سمع قهقهات من خلفه، الصوت الخفي، يعادوه من جديد هامساً في داخله.
يا للغرابة‍‍! ماذا فعلت حتى حاقت بك كل هذه الفجائع. أقرطت بخور كل
المقامات المقدسة؟! أمزقت أكفان كل المؤمنين الموتى؟! أأوغلت في المحارم
والموبقات، أحفرت القبور لتنال من الميتات؟! أشاركت في مقتل الحسين بكر
بلاء؟ أهتكت عري المحصنات؟ أتعاملت مع الموساد واللوبي الصهيوني. وخنت
القضايا الجوهرية، أبعت نفسك ورسالتك في سوق النخاسين والخونة"؟. تصاعدت
ها، ها، ها كقرع جنائزي في الدفن الليلي، أحس غيلان الجعفي ببحيرة أعماقه
تصخب، وأن وطاويط ممسوخة تطير فوقه، تحاول أن تغرقه، بجلودها السود، وأنه
يلطم جدران القاووش، لطمات عنيفة، ويصرخ في الخواء، متحدياً:‏


لن أكون
حذاءً يتخذ القالب المناسب لأقدامكم. لن أكفر بالإنسان الطيب البسيط، لأنه
غاية الحياة وهدفها البعيد، قسماً سأظل أركض وراء شمس الحرية، وأفتح أحضاني
لريح الإنسانية والتقدم، واستشف كوى النور والتفاؤل.‏


تعالت
الأصداء في القاووش، تناهت إلى المرافقة الذين لم يفهموا من هذه الكلمات
إلا أنها استغاثة، اختفى الصوت من ورائه خلف العتمة. سمع صوت أمه وطفا تقرع
باب القاووش بابتهالات ضارعة، ونداء أيوب السارح فوق درج القصر. فتح بابُ
القاووش، جرَّ المرافقة جسد غيلان الجعفي المنهك. طرحوه في غرفة واسعة
سموها غرفة التحقيق، في وسطها طاولة جوزية فخمة وعلى كرسي ابنوسي لامع،
أقعى رامز الصوّان في عنجهية جاهلية، تبرق عباءته المزركشة على كتفيه،
وتزهو بأشرطة مذهبة، وأمامه عصا معقوفة. قلب شفتيه بازدراء وقرف، كأنه يشم
رائحة كريهة، حملق بتعالٍ في سحنة غيلان الجعفي الحائلة، وثيابه المتسخة،
وجسده المعصور واثلام الزمن المحفورة فوق جبهته وقال:‏


- يظهر أنك
شخت قبل أوانك، وصرت رثاً كخرقة بالية. وخريج الحبوس، سيظل مراقباً تحت
أنظارنا. لنا عيونٌ ثاقبة تحصي كل التحركات، كل من يجذف خارج تيارنا،
ومعاكساً لنا، سأسحقه بجزمتي هذه، كدودة حقيرة تنمو على المزابل، لم تتعلم
دروس المرونة، رغم ما نزل بك من مصائب وتشريد، ولولا أنك جاري في هذه
القرية، لطرحتك في حبس لا تخرج منه أبداً.‏


حاول غيلان
الجعفي أن يرفع رأسه الجبل، تدنو من رقبته والكرباج المرقش كأفعى رقطاء
تركن في الزاوية، فتداعت في ذاكرته صورة رشيد بك مبارك يجلده بقضيب الرمان،
ويربطه بالسنديانة الهرمة، والخطوط المغموسة بالدم، تنطبع فوق ظهره
النحيل، ونسوة غويران، وجمع غفير من الأهالي، يتملون تلك الدراما المفجعه،
تراكضت الصور من رميم الماضي كأنها حدثت البارحة، أبوه المعتر الذي امتلأ
فمه بتراب المقابر، كان يدني برأس ابنه ليقبل الجزمة العونية لابن مبارك
كما تحاول أمه وطفا أن تقوم بالفعل نفسه وإن اختلفت الشخصيات- مولولة:‏


- دخيلك-
يا سيدي- إحفظ لي ابني الوحيد. وها الشيخ نجم المقدس ما قاسى أيوب النبي
أكثر منه، ونحن جيران من قديم زمان، وقرايبين، كم مرة زرتنا في بيتنا، يوم
كان أبوه على قيد الحياة. أنا واقعة عليك وبوس تراب رجليك وها الدنيا غرورة
غير لله ما دامت.‏


عصف إحساس
مقيت في أرومة غيلان الجعفي، إنه استحال دودة كبيرة يتسلى بها الآخرون،
ومسخاً هابطاً عن صعيد إنسانيته، فبرز له وجه العالم مليئاً بالقبح
والعدوانية، وأصابه قرف وميل إلى أن يتقيأ ذاته. فخانته عيناه، وانسكبت
دموع غير إرادية فوق خديه. إنه كان يتقيأ الإنسان المعاصر، أمر عقاب الجبل
بفك وثاقه، وإطلاق سراحه. أمسكته أمه بيمينه، وأيوب السارح بشماله وصار
يتعكز عليهما، بعد أن خارت قواه من الخيبة ومظهر التردي في المسوخية.
وراحوا جميعاً يُعرَّجون صوب المقبرة. كان الشفق الشمسي الغارب ينشر نبيذه
الأرجواني فوق قمم الشعرا، وقبة الشيخ نجم الريحان تبدو مركباً أبيض يبحر
في المساء. سرى الانتعاش في عروق غيلان الجعفي، استعاد بروقاً في كيانه،
وهتف عندما حاذى بيته وحواكيره، صارخاً:‏


- إنه الغروب
عينه الذي يحمل إليَّ غروباً دائماً، وفجائع تترى. قسماً سأبدله بطلوع
مشرق، تلتمع فيه بوارق حياتي وسط الدياجير وممارسات الأوغاد، وأرسم قدراً
جديداً، أشد سطوعاً وتفاؤلاً، يستشرف الإنسان الحقيقي المسكون بالتحدي،
والحرية، والثورة الدائمة على كل المعوقات والجمود، وذئبية الغاب، وعقد
النقص التاريخية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://starlook.alafdal.net
 
خرائب الأزمنة الفصل 20
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خرائب الأزمنة الفصل 14
» خرائب الأزمنة الفصل 15
» خرائب الأزمنة الفصل 16
»  خرائب الأزمنة الفصل 1
» خرائب الأزمنة الفصل 18

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ستار لوك :: الروايات-
انتقل الى: