منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
منتديات ستار لوك
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتديات ستار لوك


 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 خرائب الأزمنة الفصل 22

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
BaSmA iBrIz

BaSmA iBrIz


انثى عدد المساهمات : 1387
تاريخ التسجيل : 04/03/2011
العمر : 25
الموقع : /https://starlook.alafdal.net

خرائب الأزمنة الفصل  22  Empty
مُساهمةموضوع: خرائب الأزمنة الفصل 22    خرائب الأزمنة الفصل  22  Emptyالخميس 23 يونيو 2011, 14:42


الفصل الثاني والعشرون

انعكاسات التحولات.‏

أخطبوط
الزمن بأرجله السبع، غدا يشكل الأيام والسنين، ويعتصر أعمار البشر، ويلوّن
حيواتهم، انعكاسَ تحولات، وارتكاسات في المسار البشري، حتى تقشرت اعتصاراته
ومفارقاته عن تغيرات في الواقع الحياتي والسياسي والديني، تكشفت عن ظهور
طروحات، مشدودة إلى الخلف، ومستلهمة من عهود تاريخية بعيدة، وممارسات
متعصبة، وقُطعت الأشجار المثمرة إلا في الأعالي، وهلك الناس جوعاً. حتى أن
الفتيان من الجرود كانوا يدورون كالمسعورين، ويرتقون الأماكن الوعرة،
يلتقطوان ثمرات البلوط والسنديان، ويجعلون لبابها طحيناً وخبزاً، ويقتلع
بعضهم الحشائش البرية والجذور، يمرشون أوراق الشجر ليسدوا رمقهم بها، ورمق
أسرهم، وكانت أجساد المسنين والعجزة والمرضى، تموت في عراء جبل الشعرا
ومعاصيه. وتحت رعش دهري، لماموت ما قبل التاريخ، انحشر غيلان الجعفي وابنه،
وأيوب السارح وأولاده، وأبناء سويلم الدرويش وعائلته، وفي وسط الفسحة التي
شكلها الرعش من الداخل، كانت وطفا الأم، تحتضر، ويتحشرج صدرها بزفير
الموت، وكان وجهها الترابي، ينزف بحزن مقهور نهايتها. وعيناها تشخصان في
جوف هذا الرعش الماموتي، وتمسحان الغبشة الصباحية التي ترود الأفق الشرقي،
وما وراء نهر العاصي، والسهوب المترامية الأطراف. اقترب منها ابنها غيلان
الجعفي، احتضنها في أسى، أسند رأسها على صدره، وضمها في حنو متمزق، ومسدَّ
شعرها الأشيب، وهمس في أذنها:‏


- أمي..
أمي لا تتركيني، أنا أحوج الناس إليك في هذه الفترات العصيبة. سنعود إلى
بيتنا بجوار المقبرة. نبني ما دمره البغاة، سنجدد الحياة، ونعيد كرة العمر،
أرجوك لا تموتي في هذه الأيام، حتى أقدر أن أعمر لك قبراً بجانب والدي،
جديراً بك، وأحفر شاهدة مرمرية، تبقى شاخصة، تعبر عن اسمك ومسار حياتك،
وأوفي النذر عنك للشيخ نجم الريحان وأدعو الناس إلى أسبوعك.‏


تسمرتْْ
عيناها في جوف الرعش الكامد، رفعت يديها الواهيتين، أمسكت برقبة ابنها،
واحتضنته، انغمر وجهها المنزوف بوجنتيه، اعتصرته في حسرة، طبعت قبلات فوق
جبينه، غمغمت بصوت ضبابي مخنوق:‏


- خلصت
حياتي، يا ابني- ولن تطلع الشمس علي، وصيتي هذا المعتر ناصر وبناتي اللي ما
بعرف تحت أي سماء عايشين. وصيتي تعود إلى مزرعتك، وترمم ما هدم، والدنيا
ما انتهت بعد، يا ابني.. وتخلي جسور المودة والرحمة مع جيران الرضى
الحاضرين معك. وحتى لا تتعذب بنقل جثتي عبرها الجوبات والسناسل الوعرة.
اقبرني في ظل ها الرعش، وسط جفنة الريحان اللي بتسكن ريحته في قلبي من يوم
كنت، ظغيرة.‏


راحت وطفا
الأم في غيبوبة. نعب بوم فوق شجرة بلوط عالية، سرحت ضبابة خريفية في
الأودية والشقوق المنخفضة، وأخفت وراءها المعالم، وتركت ذيولاً أسطورية،
تموج فوق أعالي الأشجار، وتنحسر عن أشباح تركض بين المنحنيات. أحس غيلان
الجعفي أن يدي أمه استرختا عن رقبته، وأن برودة صقيعية سرت في جسدها، وأن
أنفاسها التي كانت تتحشرج، قد سكنت، تقرى نبضات قلبها، أدرك أنه توقف إلى
الأبد. نظر في عينيها الشاخصتين الجامدتين، فلفتحته ريح الموت، واعتصرته
انتحارات صغيرة، ذات ميسم عدمي فصرخ:‏


- لقد ماتت، لقد ماتت.‏

انهلت
مدامعه، في أسى غير مجرب، حتى كاد يشرق بها. تجمع حوله كل من كان تحت
الرعش. ندبتها نسوان بني سويلم بفروقات مليئة بالأسف، وغنت جميلة من قلب
مجروح أغانيها الحزينة، وذاب صوتها الرخيم في ضبابة الخريف. ورددته الجبال
الغافية على حلم كئيب، وتناغمت التراديد مع همهمات الفجر، وغنى شحرور فوق
شجرة زعرور بري كان يلتمع ثمرها الأصفر تحت نوافير الضياء الآتية من الشرق،
وتجاوب الندب الصباحي، مع مواويل أمهات الجرود اللواتي فقدن أولادهن أ
ثناء زحف أرجل الجراد وارتسمت في الآفاق المحروقة، وعبر الجانب الإنساني،
مأساةُ شعب، قضت الأقدار، أن ينسكب دمه أنهاراً، ويذبح بلا رحمة.‏


***‏

وقدم
الدكتور الأخضر العربي ونبيل السواحلي، المنفيين خارج البلد منذ زمن بعيد
إلى المشرق، ليطلعا عن كثب على ما حدث فعلاً. وفي صوره متخفية. وتحت جنح
ليل آذاري الملامح وفي مكان منعزل في جبل الشعرا، يسمى نبع الصفا، وعلى
فسحة معشوشبة، ومستورة عن الآخرين، وخلف مغارة سويلم الدرويش في الجهة
الشرقية منها، اجتمع الدكتور الأخضر العربي برفاقه القدامى من قرية عين
الغار ومناطق العثمانية. وكان اللقاء حاراً ومأساوياً، امتزجت فيه دموع
الفرح والتساؤل عن الأحوال ومجريات الأمور. وكان أيوب السارح يتعكز على عصا
معقوفة، ويدق بها الأرض، وقد بدا بلحيته الثلجية الطويلة التي تتوسد صدره
الناحل، وبجبهته العريضة، وعينيه الغائرتين اللتين ترودُ فيهما عِبرُ
الأيام ومآسيها، كأنه نبي توراتي آت من أتربة العهد القديم. مسد لحيته
بحركة عصبية، وتنحنح قائلاً:‏


- ذكرني
هذا الاجتماع. بالسيد المسيح. وهو على الجلجلة، والمسامير دقت في جسده،
وارتعاشات الألم، بلغت ذراها، فتوجه بنظراته الفارعة إلى السماء قائلاً:‏


(إلهي
لماذا تخليتَ عني؟). وأنتما لماذا تخليتما عنا؟‍! ونفيتما نفسكما إلى
الخارج، ودفعنا نحن الثمن. وهذا التعيس الحظ - وأشار إلى غيلان الجعفي-
أمضى زهوة عمره في الزنزانات، وانصبَّت عليه رجوم من العذابات، وانقصف
شبابه بالتصدعات والريب، وقهقهات الماضي من خلفه. ومغارة الضنية ستظل تلقي
بكوابيسها الكالحة إلى آخر الدهر، ودفع الجرود ضريبة دموية، قلَّ نظيرها في
التاريخ. ورغم هذا كله لم نيأس من طلوع فجر ولو على رماد احتراقنا،
واحتراق بيوتنا.‏


أجهش
بالبكاء، شرق بالدمع، مات صوته في صدره، خيمت سكينة، أغلق كل منهم باب
كهفه، زمزمت نحلة برية ضائعة عن سربها، تأرجت حرشة نبع الصفا بعبق أخضر،
امتزجت به أنسام بيض، وبرودة منعشة، وكان لا زورد السماء منمنماً بمصابيح
النجوم، وهسهسات النسغ في الطبيعة يتحرك في عمق الأشياء، إيذاناً بقدوم
ربيع الفصول، أزاح الدكتور الأخضر العربي نظارتيه عن عينيه، وسرح وراء
الليل المتحرك في العالم الخارجي، وهتف في حزن مقهور:‏


- لم
تكونوا وحدكم في الحصار والحرائق. كنا نتمزق للويلات التي نزلت بكم،
وبالانقسامات التي حاقت بحزبنا الثوري، الغربة، والنفي، والقلق الغريب،
عششت في عروقنا، وقضمت معاني حياتنا، البراكين والزلازل، وتفتت الدول،
والتحولات التي حدثت في الجانب الإنساني، خلاف ما كنا نتصور، والحروب
الطائفية وذبح الناس على الهوية، وسقوط المعسكر الاشتراكي، كلها شكلت
منعطفات حادة وصدوعاً غائرة يصعب رتقها ويظهر أن القوانين الموضوعية،
ومحاولة ضبطها مسار الإنسان، غير علمية، وغير صحيحة إذا لم تضع في حسبانها
تأثيرات الشروط الذاتية وتقلباتها، وهينمات الأفراد ودورهم الفعال في رسم
حركة التاريخ. ما جئنا لنبكي على ما فات، ولكن لنخط المستقبل بروح جديدة،
ونرسخ الوحدة الوطنية بين فئات الشعب. وبقايا المتعصبين يريدون أن يهدموا
جسر الكفري إلى الأبد كآخر رموز تلاحمنا، وتعايشنا المشترك. وذلك بعيد
منتصف ليل السابع عشر من نيسان، المصادف لذكرى جلاء المستعمرين عن أرضنا
فما رأيكم في ذلك؟!‏


تشظت الصور
من مراقدها في مخيلة غيلان الجعفي وتناثرت كدخان الحرائق الذي عمَّ قرى
الجرود وقصور آل الصوان وأبنية آل الغشيم وبرقروق ومنزول بدر الجعفي..
وتكايا آل الخصيب، والحريق الذي أتى على جزء من بيته، والأشجار التي قطعت،
والقبور التي تحطت شواهدها المرمرية، وقبة الشيخ نجم الريحان، التي تصدع
جانب منها، وغربلها الرصاص.. وقبة الجد جعفر الخصيب التي تقوضت بعض
زواياها، وطار شاهد هلالها الحجري، وبقيت العثمانية وقصور آل مبارك، محافظة
على سلامتها، عصية على التهديم والتحريق، لأن منطق الغالبية والكثرة
والبطش، هو الذي يسودُ تاريخَ الإنسان. فتح طبقته المعهودة المكبوسة بتبغ
حواكيره، وانتزع منها لفائف، ووزعها على رفاقه، وأشعلها بقداحته، ونفث
نفثات دائرية، وتسلق بعينيه مرتسمات رفاق الأمس، ورفع ومضات قداحته في وجه
صهره نبيل السواحلي يتقراه وهو بجواره، وقد مضتْ عهود شديدة التقلب ولم
يره، فطالعه وجه من الرمل المتحجر، حفرته الأيام، ينز بتعابير النفي،
والتشرد، لوحته الصحراء الكبرى، والتنقل بين واحاتها ومدنها، وانحسر شعره
الأشيب إلى الخلف، وتكهفت عيناه في مؤقيهما، وظل شعاع أنيس يخبُ وسطهما.
أومأ غيلان الجعفي بيديه الراعشتين، إلى الحاضرين، وقال:‏


- تقشر
جلدي من أهوال المعاناة؛ في السجون، والسراديب الانفرادية، والحصار، ونفذ
إلى مسام نفسي الاعتصار والخوف من الخوف، والقهقهات من خلفي، وتخلى عني
أحبتي ورميت في مهمه الموت البطىء، ولكنني لم أكفر بقيم حركتنا الثورية،
والوفاء لنظرتها، وشحذت جسدي على مسن مرهف، حتى أضحى رمحاً مصقولاً، وطلقة
جاهزة في بندقيتها غير أني أريد أن أتعرف إلى بعض الوجوه الحاضرة، التي قد
أموت معها في معركة واحدة.‏


دوّم
الدكتور الأخضر العربي أبخرة سيجارته في الفضاء الليلي، وتراءت شباك عنكبوت
وراء سبحاتها، وحكَّ أرنبة أنفه، وكان متكئاً على مرجة العشب، فاستوى
جالساً وأجاب:‏


- يظهر أني
لم أحفظ دروس المجاملات، رغم أني أفنيت عمري في أوروبا وجلَّ من لاعيبَ
فيه. ولك كل الحق أن تتعرف إلى رفاق المصير الواحد، وهؤلاء بالترتيب هم عمر
الخالدي، أبو بكر الراوندي، وحسام حاتم وأنت تعرفه من قرى العثمانية.
وهذان اللذان بقرب شجرة الشوح هما جورج نعوم، وإيليا منصور من المناضلين
القدامى.‏


تنحنح نبيل
السواحلي. حرّك يديه في انفعال، قطف أقحوانة من نبتة صغيرة، راح ينزع عنها
وريقاتها، كما كان يفعل في ماضيات أيامه ككشف للحظ، حتى أنهى آخر وريقة من
الوردة، وتكشف عن حسن الطالع، وأردف قائلاً:‏


- هذه
الوردة بمسار تويجاتها، أجابت بنعم لهذا اللقاء. أمضيت سنين نفسية متطاولة
كالقرون الرتيبة على سيف الصحارى الكبرى، وعلى سواحل ليبيا وقفارها
الممتدة، فلم أتنصت إلى هسهسات نبع يجري من قلب الأرض الرملية، ولا إلى
ريحانة تضوع بأرج قدسي، حتى خمدت أحاسيسي كذرات الرمل. وفي هذه الليلة أشعر
بأني أولدُ من جديد مع لدونة هذا اللقاء. وقدوم هذا الربيع، فنرصَّ
صفوفنا، وننتزع أشواك الطائفية والفئوية من أذهاننا، ولنطهرْ حواسنا، من
مفرزات عصور الانحدار، ولنعد أنشودة الوحدة الوطنية، ونهتف بكليتنا: الدين
لله والوطن للجميع.‏


مرق شهاب
لامع في مطاوي سماء مغرقة بالزرقة، ومرَّ فوق الرؤوس وأضاء فسحة من المكان،
وسقط كما يخيل إلى الرائي، بجانب قبة الشيخ نجم الريحان. واستدرك الدكتور
الأخضر العربي معبراً:‏


- هذا
الشهاب احترق ليضىء، ورسم دائرة من النور بمروره في سماء هذا العالم، ونحن،
ينبغي أن نتشبه به، نحترق لنضىء، نموت لتورق من دمائنا شجرات يانعة
وثمارنا ضجة، قد لا نقطفها، نحن، بل الأجيال الآتية بعدنا، هذا هو طريق
أصحاب الرسالات، طريق أنبياء العصور، والمصلحين الاجتماعيين، وروّاد
الثورات، الوقت قد أدركنا، وأخشى العيون المتلصصة. وهذه هي الخطة التي
رسمناها للدفاع عن جسر الكفري والتترس بين ضفتي النهر، والمواقع التي يتربص
كل منافيها، والأسلحة، ستصلكم في حينها. وإلى اللقاء في ليل السابع عشر من
نيسان، ولننفض كذوب الملح في الماء دون أن يلتقط تحركنا أحدٌ.‏


أمسك بحقيبته
الخضراء الصغيرة، فتح سحَّابها اللامع، تناول رزمة من الورق، ووزعها على كل
واحد من رفاقه، وتصافحوا جميعاً على الوفاء بالعهد، وتناثروا في الشعاب،
وغابت أشباحهم، وراء غبشة الفجر، بين الرعوش والسناسل ومساقط نهرالسبع،
فأخفتهم معاصي الشعرا. أهدودر أيوب السارح وغيلان الجعفي، ومعهما نبيل
السواحلي إلى عين الغار. وكانت ديكة آل سويلم الدرويش تصيح بصوتها المعدني
كوكو. ري. كو والفجر خطوط حمار وحشي، ترتجف في المراقي الشرقية، شبّابات
رعيان يروحون بقطعانهم صوب الأدوية والرامات التي يتجمع فيها الماء. والقمر
الناحل في المحاق ثمرة زعرور صفراء قضم الزنابير بعض أجزائها. وأشذاء
أزاهير، مخملية الرؤى، تثير الحلم القصي إلى جزر القمر التي تنضح بالعطور.
ونداء المؤذن: الله أكبر، في الجامع الوحيد الذي أشاده آل الخصيب يتهادى
كصوت نبوي من خلف العصور، يدعو إلى الوحدانية، والتآخي، والمحبة.‏


الفصل الأخير

الاستشهاد‏

أيام نفسية
بطول الدهور، تجرجرت ساعاتها ودقائقها، ترقباً وترصداً، وتبدت بوصلة الزمن
فيها، باردة، بطيئةً كسلحفاة، في المرتقى الصخري. وقد أوفى الدكتور الأخضر
العربي بنذره وعهده، وأرسل الأسلحة في حينها مع حمولة سيارة بيكآب من
الذخيرة والرشاشات، والقنابل اليدوية، والبندقيات الروسية، مصحوبة ببيان
ناري العبارات، يدعو إلى المقاومة والدفاع حتى الموت عن الجسر الكفري وأن
يترّس الرفاق الجرود في الجانب الجنوبي منه، والرفاق من العثمانية وقراها
في الجانب الشمالي منه، ومنع نسفه مهما كلف من تضحيات: وتجمع الرفاق الجرود
ومن معهم، في ضامة أيوب السارح ووزعوا الأسلحة على أنصارهم، واستدل كل
منهم على موقعه، ومرافقه. وتفرق الجميع ليلاً بسرية كاملة، على أن يكون
اللقاء غداً في منتصف الليل القادم على الضفة الجنوبية من الجسر. عصفت
بغيلان الجعفي مشاعر مبهمة، لم يحسَّ من قبل بوتيرتها الحادة، بهذا الشكل
وبرهافة هذا المذاق المتفرد. شوق أخضر إلى احتضان الوجود بلون البروق
الشديدة اللمعان، ميل كاسح إلى لثم شواخص القبور التي يعرف أصحابها، تواجد
غريب أشبه بتواجد الصوفيين الذين يستشفون برازخ التقاطع بين الأزل والزمان،
بين اللامتناهي والمتناهي، انسياب حلو كرفات الطيوف ترقرق في مخيلته، نبع
بلا ماء مرئي، غنَّى وراء الأشياء، نسغ خفي، أصاخ بكليته إلى هسهساته في
الجذور. العالم كله تغيرت وتيرة مذاقه، وانكشفت أشياء وراء عتبة الحواس.
تذكر قول معلمه فجر الشريف إن المشرفين على الرحيل عن الحياة، تُرهف
أحاسيسهم، وتتفخم رؤاهم، يتذكرون كل نأمة أو حركة مرت بهم. وتصير حواسهم،
نسراً يحلق في الأعالي، ويتسامى فوق الرؤى الدودية، فيطلون على كوى أشد
اتساعاً وتحليقاً، مما كانوا عليه في حياتهم العادية".‏


لم يقدر
على أن يتحمل مشاعر هذه المناخات الغريبة التي لم يلامسها من قبل بهذه
الشدة، فدخل إلى بيته خائفاً، مرتعشاً كرسول في العهد القديم فاجأه الوحي
وهو في ذروة تأملاته وعزلته. كان نبيل السواحلي متيقظاً يطرق بؤبؤ عينيه
بمطرقة جفنيه الرَّافين. وقد أسند رأسه إلى ذقنه، محدقاً باللاشيء، شارداً
وراء أفكاره فاقترب منه غيلان الجعفي، وربتَ على كتفه هامساً:‏


- مالي
أراك ساهماً؟! أتخاف أن تموت؟ بماذا توغل في التفكير؟ ألم تقل لي بأن
أولادك الأربعة قد كبروا، وحوشتَ لهم ما يكفيهم من الدنانير، وأودعت مالك
باسمك وباسمهم في المصارف. ونهاية كل شيء إلى الموت والفناء.‏


فكَّ ذقنه
من كماشة يده، رفع رأسه في فتور. التقطت عيناه الصدع الذي أصاب سطح البيت،
أثناء الغارة العثمانية في الصيف المنصرم. وأجاب في أسى:‏


- بقيتُ
أمنّي أختك وأولادي بالعودة إلى هذه المرابع، كنا نقتات وسط الرمال بأحلام
العودة إلى المشرق، وأن نشيد بيتاً أنيقاً بعد هذه الغربة، بجانب هذا
المزار، وأن نجمع الشمل بعد هذا الفراق النائي. يظهر كما تقول حكمة متأملة
أحفظها: (إن الأرواح لا تتصل ببعضها إلا في الماضي. والأجساد تعيش في
الحاضر، والمستقبل تسكنه الأحلام ورفيف الأماني المستحيلة التحقيق، ميلنا
المدنف إلى الطفولة، يختزن في ذاكرتنا المتع الحلوة في ماضينا. عمياء هي
العين التي إذا أغلقت أجفانها، لا تلمح خلف بؤبؤها صورة عزيزة على قلبها،
صماء تلك الأذن التي لا تسكنها تراتيل الليل وأغنيات النهار، مُرة هي الشفة
التي لا تسترد ثمار الحقول الشديدة الحلاوة. ولكني غداً قد تموت أحلام
زوجتي وأولادي التي تركتهم في سبها الصحراوية وحيدين، ينتظرون عودتي،
ونقلهم إلى هذا المشرق الساحر. سمعت بفاجعة مغارة الضنية فجئت أتبيّن حقيقة
الأخبار، والتقيت بالدكتور على متن الطائرة الآيبة إلى المشرق العربي.‏


انتابت
غيلان الجعفي شفقة رحيمة على صهره. سحق أسنانه ببعضها بعضاً، فرقع أصابعه
كصوت الملح في النار، زفر زفرات حارقة، وتمتم قائلاً:‏


- إذن لن
تموت غداً وتترس خلف شير الغابة فلن ينال منك الرصاص. ومن كان مثلك، وعنده
هذا المخزون من أحلام العودة، وحمل قارورة أحلام زوجته وأولاده، ينبغي أن
لا يريقها بهذه البساطة، وأن يبقي على هذا المخزون حتى يرتطم بقساوة
الواقع، وينفد من تلقاء ذاته. أما أنا فالماضي قهقهات من خلفي، وصدوع
تهددني دوماً بالانفصام، والحاضر حصار الماضي وكوابيسه، بقي لي خيار واحد،
أن أطلع المستقبل، وتتفتح ألف زهرة، من الوحدة الوطنية، ولو على رماد جسدي
وموتي.‏


نهض إلى
زاوية البيت، كسر القشرة الخارجية التي تكسوها. أخرج ألفية عرق مخزون منذ
زمن، قبل وفاة أمه، سحب السدادة الفلينية عنها، فتش في النملية عن الأكواب
الخشبية التي نحتها والده من لباب الشجر، منذ أيام غويران الوطا. انتشرت
رائحة الكروم، عبقت الأرض بمذاق أواخر الصيف، صبَّ العرق المتخمر، كرع ثلاث
كؤوس صرفاً صرخ كأنه في فلاة منقطعة:‏


- تعال، يا
صهري الحالم، تعال يا ابني ناصر. اليوم خمر وغداً أمر. إذا لم تنهضا سأكسر
هذه الألفية على رأسيكما. فلنتناول قربان الرحيل قبل مجيئه، لا عاش، من
مات صاحياً الليلة.‏


التمعت
نجمة في عينيه، كما تلتمع نجمة الصبح بشخوصها المذهبة قدام الفجر. والتهبت
مخيلته ببروق تمر فوق الغابة. وأمر ابنه أن يأتيه بشبابته القديمة، لينفخ
فيها، فالليل له رائحة متفردة لا تنام، وأن يعزف هو على أوتار ربابة جده
الجعفي، تناغمت الإيقاعات الحزينة، واسترقت الشهب أسماعها في سماء ربيعية
مغرقة بالصفاء، وتهافتت فوق قبة الشيخ نجم الريحان لتذوب انطفاءً وترمداً
في حنين الربابة، والتهاب القصب وتراجيعه، التي أيقظت أشباح الموتى الذين
رحلوا وأبقوا رفاتهم الحلوة في المخيلات. وظلت التراديد تشنّفُ مسامع
الليل، وشماريخ الجبال، والقبة البيضاء، وتحمل في ذاتها طعم الرحيل والوداع
والحسرة حتى غطَّ الثلاثة في نوم عميق، وسكرة لا حدود لأبعادها، يتصالب
فيها الماضي بكل نأماته وتوجعه، والحاضر بكل ترقبه ووحشته، والمستقبل بكل
حدوسه وتنبؤاته المتبرعمة في أحشاء الغيب.‏


***‏

أومضت أول
إشارة في مغارة بني سويلم الدرويش أطلقها أيوب السارح، إيذاناً بالنزول إلى
الجسر الكفري والتترس وراء الصخور المشرفة عليه، اهدودر حماة الديار من
أبناء الحزب الثوري، في منتصف ذلك الليل المفصلي، الذي تتصالب فيه مصائر
وحدة وطنية، ونهاية مجموعة سكنتها روح أمتها، كعقارب ساعة منتصف الليل. أخذ
كل منهم موقعه المحدد له، وجهز سلاحه وأمنَّ ذخيرته. تترس أيوب السارح في
مكان مرتفع يطل على الحارة التحتانية، ليقتنص كل من تسول له نفسه بالهجوم
على الجسر، وكأنه استعاد شبابه الأول، وقدرته على استخدام السلاح، وكان من
حسن الرماية وإتقانها بأنه يصيب الإبرة المعلقة في شجرة وعلى عشرات
الخطوات، ويصطاد الطير في قبة السماء، ويقتنص بصبوص الليل وهو يؤوب في
الدجى. كما كان أترابه يتحدثون عن براعته. وأنزل ابنه سامر معه، ليملأ له
البندقيات بالذخائر، ويعاونه إذا ازدحم القتال. واتخذ غيلان الجعفي وابنه
ناصر، وحميدان الدرويش موقعاً على الدرب المؤدي إلى الجسر مباشرة، وتوزع
الرفاق الآتون من العثمانية وقراها على المواقع في الجبهة الشمالية من
الجسر. كان البدر تماً مكتملاً، كدارة نورانية، تسبح في فضاء اللانهاية،
ونقيق ضفادع معدني، وصوت قرقرير يصدى بهما الليل، وبرودة ناعمة تتغلغل في
العروق، وضبابة خفيفة، كلهاث طفل غرير فوق زجاج شفاف، تتصاعد من مساقط نهر
السبع وشجيرات الدلب والحور تتمايل كأشباح مترنحة أمام هبات أنسام الضفاف.
وكواكب السماء تلمع كالنيران الجن والعفاريت في حكايا (ألف ليلة وليلة كان
غيلان الجعفي في ذروة صحوته وإشراقه، كأنه عريس ترقب انصراف المدعوين،
ليختلي بعروسه، ويدخل إلى مخدع الزوجية. وكان يروي لنبيل السواحلي. وابنه
ناصر، وابن سويلم الدرويش، ومجموعة من رفاقه الحارسين، لقنطرة الجسر، رؤياه
العجيبة، وحلمه في منامه البارحة، قائلاً:‏


- أعجب ما
رأيت في حياتي، ويكاد لا يصدق، إلا للذين شفَّتْ حواسهم، وصفتْ أرواحهم،
كما كان يقول خالي عمران ووالدي. وذلك أني رأيت في منامي البارحة وبعيد
الفجر، حلماً غريباً. الشيخ نجم الريحان بذاته، تجلى لي بصورة شخصية،
بقامته المديدة، ولحيته الثلجية الموازية لصدره، وجبته الخضراء، وبإشراقة
عينيه اللامعتين. كتلك النجمة التي فوقنا، وهمس في أذني، (سأقاتل معكم
غداً، وأحمل بروق الصواعق بدعائي لكم، وألقي في قلوب دعاة التفرقة
والتمزيق، الرعب والهلع، والله مع الجماعة والوحدة. وسأخرج من قبري اليوم).
اقشعرَّ جلد الحاضرين، قفَّ شعرهم توزعت رعشات الحلم بين المدافعين عن
الجسر، وغلت مراجل الحماسة في صدورهم، وآمنوا أنَّ النصر قادم، وتلك
الموقعة مستلهمة من روح موقعة بدر الكبرى.‏


استرد
غيلان الجعفي أنفاسه، وحملق في السماء المليئة بتلك الصوامت الأزلية،
المعلقة في أذن الجوزاء، كأقراط من الضياء اللامع، وتابع حديثه:‏


- وأغرب من
ذلك، أني استيقظت من نومي، وقبضت على كمشة من البخور، لأحرقها قرباناً في
الغضارة، على مشهد الشيخ نجم الريحان وفوق قبره، فوجئت ويا للغرابة، أن قبر
الشيخ متصدع وأن شخصاً ما خرج من لحده.‏


انبهر
الجميع، سادت غيمة أثيرية ذات امتدادات عجائبية في صميم المدافعين، خيمت
سكينة متأملة. مزقتها زحوف من الشمال والجنوب. دوّى الرصاص في الأودية،
انهمر كزخات البرد الشتوي، تطايرت شظايا، حول الضفتين، أبدى المدافعون
مقاومة ملحمية عن الجسر، كان أيوب السارح يطلق رصاصه الصائب على كل من
يتحرك، ويخمده. مضت ساعات لا يمكن قياسها بالزمن العبودي المؤلف من دقائق
وثوانٍ، دامت الرشقات تئز فوق رؤوس المدافعين حتى بان أول خيط أبيض من
الفجر، واخترقت رصاصتان رئة غيلان الجعفي، وثلاثة رأس حميدان الدرويش فخر
صريعاً. وسحب ناصر والده المصاب إلى ظل الصخرة ليقيه زخات الرصاص. أظهر
المدافعون صموداً حير المهاجمين الذين أغاروا ثانية من الجبهتين لحصار
الجسر ونسفه، وانهالوا على مترس أيوب السارح الذي كان رصاصة يقنصهم، ويسيل
دماءهم، وزحموه بوابل من الرصاص، فأصابوا مقتلاً من ابنه سامر وهو يقدم
الذخيرة لوالده فأردوه قتيلاً. انفجر غضب الأب كحمم البركان، وازداد تحفزاً
وثأراً، وانبرى يلاحق فلولهم المنهزمة حتى غابوا وراء الغبشة، وتفرقوا في
شعاب عين الغار الجنوبية، في حين أبدى ثوار الضفة الشمالية من الجسر مقاومة
شرسة، وتشبثوا بمواقعهم، مزَّقوا المهاجمين من قرية العثمانية شرَّ ممزق،
وأثخنوهم بالجراح، وجعلوهم يفرون مذعورين من هول المعركة. وعلى الضفة
الشمالية من النهر، سقط أربعة قتلى من الحزب الثوري هم: حسام حاتم، عمر
الخالدي، وأبو بكر الرواندي، وجورج نعوم. وكان الفجر قد بزغ، واندلقت حمرة
شفقية فوق قمم الشعرا. وكان غيلان الجعفي يحتضر تحت الصخرة المحاذية،
ويحتضنه ابنه ناصر. ويحملق في الصوت الخفي الذي أتاه هذه المرة من أمامه
بدلاً من خلفه، وكان يبتسم، ابتسامة عذبة بدلاً من قهقهاته، ويهمس في أذنه:
"آن لنا أن نفترق ياصنوي وأغيِّبَ قهقهاتي الخلفية من ورائك إلى الأبد.
لقد تجاوزتني رمزاً خالداً وفكرة انعتقت من كل الصدوع والانهيارات، وأمسيت
منارة دائمة الإشراق في ذاكراة الأحياء والآتين، وربيعاً إنسانياً لا يعرف
التمزق والموت، وتجاوزت الطاحونة الوثنية وخرائب الأزمنة وكلاليبها،
وممارسات الأوغاد". واختفى وراء أمواه النهر السيلي. احتضن غيلان الجعفي
ابنه ناصر في حنو الراحلين، وأمره بأن يرفع له رأسه، ليلقي آخر نظرة على
الدنيا. كان الجمع من الرفاق الأحياء، قد تجمعوا حوله، وحاولوا وقف النبع
الدموي الذي يتدفق من صدره. وحنا عليه الدكتور الأخضر وأيوب السارح ونبيل
السواحلي، يسعفوه، ولكن بلا جدوى. همس في صوت خافت كأنه أنين ناي بعيد:‏


- حياتي
انتهت. طلع هذا الفجر من هذه الينابيع الدموية الشهيدة. بقي الجسر الرمز،
أقبرونا، تحت هذا الجسر شهداء الشمال في شماله، وشهداء الجنوب في جنوبه،
واحفروا لي قبري في ظل هذه الجفنة من الغار الدائم الاخضرار. أوصيكم بشيئين
غاليين، أولهما رسالتي، أن تتابعوا الدرب النضالي، وثانيهما أن ترعوا ابني
الوحيد ناصر- ابتسم ابتسامة فوق الموت، وهوى بجسده إلى مهاوي الخمود،
والفناء، وانطفأت الشعلة التي أغدقتْ، على العالم كلَّ عطائها، ومخزونها من
الضياء ونبل المواقف وترمدتْ كالفينكس الأسطوري معاناة واحتراقاً لتولد من
ترمدها حياةٌ أشد سطوعاً وإنسانية.‏


***‏

مكث الجسر
الكفري شاخصاً في وجه الدهر، تتكسر على قنطرته ودعائمه أنواء الحَدَثان
والسنين، دون أن تنال من بقائه ورسوخه. وظلت مواكب الإنسان في قرى
العثمانية والجرود، تمرُّ فوقه في قداسة، تتملى سبعة قبور؛ أربعة في
الشمال، وثلاثة في الجنوب، ترف كمنارات لامعة في دياجير المحن، والجزر
التاريخي، أنقذت مركب الوحدة الوطنية من التحطم على شاطىء صخور مدببة
كالخناجر، وسط أعتى الرياح الهوج. وفي كل جمعة، عند الغروب، يتلامح سكان
الحارة التحتانية من عين الغار، شبح امرأة مسربلة بلون الحداد، توقف
سيارتها السوداء، وتنزل تحت الجسر، توقد ناراً، ترمي بخوراً في غضارة
حائلة، تركع في خشوع أمام قبر غيلان الجعفي وتقرأ الفاتحة، وتسرِّحُ
بناظريها الخضراوين إلى شمس المغيب، وتهيم وراء دنيا من التأملات والغور في
الماضي، وتتناغم أشعة دموعها المنسكبة فوق مدافن الزمن الذي لا يعود مع
نوافير الشمس الغاربة، والتماعاتِ أمواه النهر المنسابة تحت الجسر الكفري
الماثل كما رد جبار من صميم التاريخ، يستقبل الشروقَ المتوهجَ، ويودّع
الغروب الآفل، في ملحمة الديمومة، والبقاء.‏





الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://starlook.alafdal.net
 
خرائب الأزمنة الفصل 22
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» خرائب الأزمنة الفصل 14
» خرائب الأزمنة الفصل 15
» خرائب الأزمنة الفصل 16
»  خرائب الأزمنة الفصل 1
» خرائب الأزمنة الفصل 18

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات ستار لوك :: الروايات-
انتقل الى: