السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
السؤال:
تراجع المستشفيات بعض حالات الحمل غير الشرعي أي النساء غير المتزوجات ، وعند اكتشاف الحمل ، والتأكد منه يحصل بعض التردد من بعض المسئولين بين الستر على تلك المرأة أو الكتابة عنها إلى الإمارة لاتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية المرأة وجنينها ، وتطبيق الحكم الشرعي عليها ، ويرى البعض أنَّه إذا كان الحمل في الأشهر الأولى ينبغي إبلاغ وليِّها بطريقةٍ سرية للتصرف بطريقته الخاصة ... إلى آخر ما ذكر نسأل الله الستر والسلامة ؟
الجواب:
ومن الله أستمد العون والتوفيق :
أولاً : أنَّ السَّتر يشرع فيما إذا كان الأمر لم يتجاوز الفعل ( الزنا ) ففي هذ الحالة يشرع الستر مع السعي في إزالة المنكر إذا كان يمكن ذلك بالنصيحة أو الإبلاغ بذلك بصورة لايكون فيها ضرراً على المبلِّغ بأن يقال رأينا رجلاً يدخل بيتاً أو يخلو بامرأةٍ لاتحلُّ له .
ثانياً : أمَّا الستر على الحمل ؛ فإنَّه لايجوز ؛ لأنَّ فيه تشجيعٌ للفساد وأهله ، وإعانةٌ للمفسدين على إفسادهم ، وفي الحديث : (( لعن الله من آوى محدثاً )) وأيُّ حدَثٍ أشدُّ من إفشاء الفواحش في المؤمنين .
ثالثاً : في الستر على الحوامل من الزنى تضييعٌ لحدود الله التي شرعها الله للردع عن مقارفة تلك الفواحش في قوله تعالى : ) الزانية والزاني فاجلدوا كلَّ واحدٍ منهما مائة جلدة ولاتأخذكم بهما رأفةٌ في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفةٌُ من المؤمنين ( والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يقول : (( البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام )) .
رابعاً : وهذا هو السبب الذي عطَّل به أهل الكتاب حدَّ الرجم ؛ الذي أمر الله به في التـوراة وفي الصحيح أنَّ رجلاً وامرأةً من اليهود زنيا ، فأتي بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : ما تجدون في كتابكم ؟ قالوا : إنَّ أحبارنا قد أحدثوا تحميم الوجه والتجبيه ؛ قال عبد الله بن سلام : ادعهم يا رسول الله بالتوراة ..)) الحديث ، وفي بعض الروايات أنَّهم قالوا : (( حدُّه الرجم ، ولكنَّه كثر في أشرافنا ، فكنَّا إذا أخذنا الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا فلنجتمع على شيءٍ نقيمه على الشريف والوضيع ، فجعلنا التحميم والتجبيه مكان الرجم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهمَّ إنِّي أوَّل من أحيا أمرك إذ أماتوه ، وأمر برجمهما )) انظر فتح الباري في ج12 / 176 طبعة وزارة الدفاع والطيران .
خامساً : الستر مرغَّبٌ فيه بثلاثة شروط :
1 ) أن يكون المستور فعلاً ، ولم يكن حملاً .
2 ) أن يكون المستور غير مجاهرٍ ؛ فإن كان مجاهراً فلاينبغي ستره .
3 ) أن لا تبلغ الجريمة السلطان ، فإذا بلغت إلى السلطان لم يجز الستر عليه لقوله صلى الله عليه وسلم : (( إنَّ الحدود إذا بلغت إليَّ فليس لها مترك )) .
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في ج12 / 128 في كتاب الحدود باب لايرجم المجنون والمجنونة : " ويؤخذ من قضيته ( يعني ماعزاً ) أنَّه يستحب لمن وقع في مثل قضيته أن يتوب إلى الله تعالى ، ويستر نفسه ، ولايذكر ذلك لأحدٍ كما أشار به أبو بكر وعمر على ماعزٍ ، وأنَّ من اطَّلع على ذلك يستر عليه بما ذكرنا ، ولايفضحه ، ولايرفعه إلى الإمام كما قال صلى الله عليه وسلم في هذه القصة : (( لو سترته بثوبك لكان خيراً لك )) وبهذا جزم الشافعي رحمه الله ، فقال : أحبُّ لمن أصاب ذنباً فستره الله عليه أن يستره على نفسه ، ويتوب ، واحتجَّ بقصة ماعز مع أبي بكرٍ وعمر ، وقال ابن العربي : هذا كلُّه في غير المجاهر . أمَّا إذا كان متظاهراً بالفاحشة مجاهراً فإنِّي أحبُّ مكاشفته ، والتبريح به ؛ لينـزجر هو وغيره ، وقد استشكل استحباب الستر مع ما وقع من الثناء على ماعزٍ والغامدية ، وأجاب شيخنا ( أي العراقي ) في شرح الترمذي بأنَّ الغامدية كان ظهر بها الحمل مع كونها غير ذات زوجٍ ، فتعذَّر الإستتار للإطلاع على ما يشعر بالفاحشة ، ومن ثمَّ قيَّد بعضهم ترجيح الإستتار حيث لايكون هناك ما يشعر بضده ، وإن وجد فالرفع إلى الإمام ؛ ليقيم عليه الحد أفضل ؛ قال الحافظ : والذي يظهـر أنَّ السَّتر مستحب والدفع لقصد المبالغة في التطهر أحب ، والعلم عند الله تعالى " اهـ .
سادساً : أنَّ قوى الشر من أهل الكفر يريدون أن يحوِّلوا المجتمعات الإسلامية إلى مجتمعات إباحية حتى يكونوا مثلهم ، ومتى توارد المسلمون على الستر على أهل الفواحش خفَّ الوقوع فيها على كثيرٍ من الناس ، وأصبح ارتكابها سهلاً ، وحينئذٍ ستكون مجتمعاتنا مثل مجتمعات الكفار تماماً ونكون بذلك قد خدمنا الكفَّار من حيث نشعر أو لا نشعر .
سابعاً : أنَّ نزعة التشبه بالكفار الآن موجودة في كثيرٍ من المسلمين ، والمتأمل يجد ذلك كثيراً في المسلمين في الزيِّ ، وفي اللباس ، وفي قصِّ الشعور ؛ بل في أمورٍ كثيرة ، ومتى أبيح الستر على أهل الفواحش نكون قد أكملنا المشوار في مشابهتهم ، ونكون بذلك قد أوغلنا في البعد عن ديننا والتشبه بأعدائنا ، ونكون أيضاً قد عملنا السبب في تسليطهم علينا نعوذ بالله من ذلك .
ثامناً : إنَّ الإحساس بألم العار قد يحمل ولي المرأة على أنَّه يقتل الزانية أو يقتل جنينها ، ويتسبب بذلك في ألمٍ شد ؛ وهو ألم نار جهنَّم التي فاقت نار الدنيا بتسعةٍ وستين ضعفاً كلهنُّ مثل حرِّها والحكمة أن يصبر على ألم العار ، ويبلِّغ الدولة بالجناية ؛ لتحال على حكم الشرع ، وتبرأ ذمته منها ، ومن حريرتها ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( والذي نفس محمدٍ بيده لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها )) وهذا هو الطريق إلى رضا الله عزَّ وجل .
تاسعاً : إنَّ المستشفى هو عملٌ حكومي ؛ وهو يعتبر طرفاً من الدولة ، ومتى وصل الأمر إلى المستشـفى ، فكأنَّه وصل لولي الأمر ؛ ذلك أنَّ الدولة هي تعدُّ بمرافقها جميعها ( دوائرها الحكومية ) جزءاً لايتجزئ ، وعلى هذا فنقول أنَّه إذا بلغت المستشفى قضيةٌ كهذه القضيـة وتبيَّن فيها الحمل ، فالظاهر أنَّه لايجوز تركه ، ولا التغاضي عنه ، ومن فعل ذلك ؛ فإنَّه يعرِّض نفسه للعقوبة أمام الله تعالى ، ثمًَّ أمام الدولة .
عاشراً : وبناءاً على ذلك أقول : إنَّ الواجب على ولاة أمر النساء أن يحفظـوهنَّ من التسيُّب وأن يسهلوا تزويجهنَّ ؛ فإنَّه إذا تيسَّر الحلال خفَّ الوقوع في الحرام ، والعكس بالعكس ، فيا ولاة أمور النساء اتقوا الله فيمن تحت أيديكم ، ويسروا تزويجهنَّ قبل أن يَعُضَّ الواحد منكم أصابع الندم حينما تقع المرأة في طائلة الزنى ، نسأل الله الستر ، والسلامة ، وبالله التوفيق .
الشيخ أحمد بن يحيى النجمي