[center]علبة الحليب بين يدي ..اشتريتها من البقال ..فتحتها بشراهة لا توصف ،وبرفق أفرغت محتواها في كوب مرتين ،شربتهما الواحد تلو الآخر، وكان قد اشتد بي العطش ...السفر والحر...جلست تحت شجرة يانعة قرب الطريق ....فكرت كيف اجتازت هذه العلبة كل هذه المراحل لتقع بين يدي ....فكرت في البقرات والفلاحين وزوجاتهم وتعاونية الحليب ....الحليب الذي أستهلكه الآن ليس من ضرع واحد، بل من بقرات متعددة.... لأنه اجتمع من كل جهة في الجماعة القروية،وامتزج ببعضه في صهريج التعاونية الكبير... بعد ذلك نقل إلى شركة الحليب في المدينة مع غيره من حليب الجهات الأخرى المترامية في البلاد ...ثم خضع لعملية التعليب بعد إجراءات أخرى صحية ونقل إلى القرى والمدن الأخرى ...ملايين العلب من كل الجهات ...وقعت بين يدي واحدة اشتريتها من البقال ...مر عليها كم من مشتري مقيم ومنحهم غيرها...بقيت تنتظرني أنا المسافر...إلى أن قدمت....فكرت كم من قطرات اجتمعت في هذه العلبة ...لا تعد...وكم من جهة ساهمت وكم من ضرع بقرة حلوب وكم من فلاحة حلبت هذه الأضرع وفي الصباح الباكر ...وكم من عجول حرمت من حقها ...وكم من عامل في التعاونية وشركة الحليب وسائقي شاحنات التوزيع وكم من بيطري وطبيب معالجة ....كلهم اشتغلوا وقاموا بمهامهم على أحسن ما يرام...لأنعم أنا بهذين الكوبين من الحليب البارد ...في هذا الطقس الحار...الملايين من الأيادي اشتغلت...منذ كانت البقرات عجلات... كم من الأيدي قدمت العلف للعجلات حتى اشتد عودها وأصبحت بدورها حلوبا ، من اشتراه وأحضره ومن باعه... كل الأسواق الأسبوعية في البادية ساهمت في حليب هذه العلبة ...وكيف بقي الحليب كما هو... مجموع من الملايير من القطرات وملايين اللترات وكيف حافظ على لونه الأبيض الصافي ...مجهودات كبرى من أجل أن يحافظ على بياضه وطراوته وجودته...من أجل سلامة المستهلك ...المقيم والمسافر....كل هؤلاء اشتغلوا وتعبوا وسهروا واستيقظوا باكرا وعانوا من أجل أن تكون من نصيبي هذه العلبة ...علبة نصف لتر من الحليب وبأربعة دراهم فقط....إ
نظرت داخل العلبة الفارغة ...لا زالت هناك قطرات ...حركتها وقلبتها في الكوب تتقطر قطرة قطرة ....لا يعقل أن يبدل كل هؤلاء هذه المجهودات الجبارة المتنوعة العديدة المضنية ... وتحرم ملايين العجول الفتية ...وتبقى في العلبة قطرات ...القطرة نفسها ستشعر بالغبن...كيف تخرج من الضرع وتضل أفواه العجول قصرا وتلقى هذا المصير ....لا أحد استفاد منها ....لا العجل ولا الإنسان ...لا البقر ولا البشر ...فقط ترمى هناك مثلها مثل ملايير القطرات المستعصية الرافضة الخروج من ملايين العلب....لو اجتمعت فيما بينها لاستفادت منها أفواه أخرى تشكو العطش والجوع...ولكنها ترمى أيضا قرب الرصيف وتطأها الأرجل أو تدوسها عجلات السيارات أو تتلاعب بها أقدام الأطفال ...إلى أن ينظف الشارع ...وبئس المصير ...إ....قمامة الأزبال الكبرى ....إ....لا... لن أترك ولو قطرة واحدة في هذه العلبة...ربما ...أنا الإنسان الوحيد الذي سيقوم بالواجب وما يمليه علي الضمير ...نفضتها قلبتها على الكوب طويلا وكأني أعصرها عصرا ...تخرج منها قطرة تلو الأخرى ...شعرت براحة كبرى وأنا أشاهد وأرمق مشهد القطرات وهي تتهاوى في الكوب الواحدة تلو الأخرى وبتثاقل وبطء يحتاجان لصبر أيوب ...ومع ذلك صبرت وتجلدت وانتظرت طويلا وأنا أنظر فم العلبة المقلوب على الكوب تطل منه القطرات وهي تتهاوى ...وبين القطرة والأخرى دقائق معدودة إلى أن انقطعت ...ونظرت داخل العلبة ...لا زالت آثار الحليب بالداخل ولو انقطعت القطرات ...آثار الحليب دليل على وجود قطرات ...ولو قليلة تعد على رؤوس الأصابع ...ما العمل ؟...فكرت في صب قليل من الماء ومزج الكل واستهلاكه ...ليس لدي ماء ...وحتى إن كان ستبدل القطرات المستعصية من الحليب إلى قطرات منهما معا...وكلاهما غال ...لا ثمن له ...الحليب والماء ...حاولت وحاولت أن أخرجها وأستهلكها ولم تخرج أو حتى لم تحاول وإن بدلت مجهودا جبارا من أجل مساعدتها على الخروج... حتى لا ترمى في قمامة الأزبال ...كم من مار اعتقد أني أبخل انسان في العالم ...أو أني بي مس من الجن ولم أهتم ....حاولت أن أساعدها على الانفلات والانعتاق وأن تستهلك كمثيلاتها لتعود من حيث أتت إلى الأبدان كما كانت مع استفادتها من ترقية مهمة ....من أجسام البقر إلى أجسام البشر ...ولكنها رفضت أن أن يستهلكها البشر ...ربما لأنها تحتج ...وظيفتها في الحياة اختلفت ...من تغذية عجول حديثة الولادة...منعت من أمهاتها ...حرمها الانسان من الضرع الحنون.... إلى سقي انسان عطشان ...ليس كالذي حرم العجول من حنان أمهاتها ومن الضرع ...ولكنه انسان على أية حال ...يشبهه إلى حد كبير...يمثل كل مافيه من شراهة وهو يحاول تقطير علبة حليب إلى آخر قطرة ... هكذا رأتني ...لذلك رفضت أن تخرج ...رأتني كذلك شرها بخيلا جشعا وفي أبشع صورة للانسان... وفضلت علي لو اقتضى الأمر قمامة الأزبال...إ...هذا رأيها في أنا ....ولا أحد قادر على جعلها تغير موقفها مني.....إ