استأذنت المشرفات لاصطحاب ليلى معي، وجلسنا ننتظر وصولها، والجو ماطر..
لقد استقبلني المطر عند وصولي، فأصابني الاكتئاب.. لكن الشمس ما لبثت أن أشرقت في اليوم التالي، وبقيت مشرقة حتى يوم سفري..
لم يكن وداع ليلى درامياً كالمرة السابقة، فقد قبلتني بسرعة، ثم لوّحت لي بيدها وهي تضحك وأنا أعبر الباب الزجاجي متجهة إلى البوابة..
في الخريف تبادلنا الأدوار من جديد أنا وبيتر.. أعود أنا ليسافر هو..
قبل سفره اتصلت بي مايا لتخبرني عن عمل لي في دمشق..
كانت فرحة بيتر أكبر من فرحتي، فقد أدرك مدى معاناتي وشعوري بالوحدة.. ربما تمنى أيضاً أن يكون في انشغالي بالعمل شفائي منك!
(هل كان لرغبتي في العمل بدمشق سبب آخر؟.. هل كنت أرغب شعورياً بالهرب منك، ولا شعورياً أن أكون قريبة منك!؟).
ذهبت مع مايا للقاء رب العمل.
دخلنا مكتبه الفخم.. الفخم جداً.
نادى على أحدهم بجهاز التحكم عن بعد ليجلب لنا شيئاً نشربه، ثم استرسل بالحديث مع مايا يسألها وتسأله بالتفاصيل عن أمور عائلية جعلتني أشعر بالسأم، وأنا أنتظر أن يسألني أخيراً عن شهاداتي ومؤهلاتي.. عن خبرتي وعملي!
باشرت العمل في اليوم التالي في بناء تمَّ ترميمه حديثاً، وتأثيثه بأثاث خشبي أنيق لا عهد للدوائر الرسمية به!
صحيح أن المركز الذي أعمل به تابع للدولة، ولكن وضعه خاص جداً.
ارتحت جداً للأثاث المريح، والنظافة والنظام، ولإدارة الإعلام حيث سأعمل..
كانت إدارة الإعلام مؤلفة من أربع موظفين فقط:
الأستاذ غسان وعماد والسكرتيرة فريال وأنا.
جو عمل مثالي..
أشعة الشمس التي تسللت عبر النوافذ الواسعة وغمرت المكتب نوراً غمرت قلبي فرحاً بالعمل الذي ينتظرني لأنجزه..
عدت إلى دمشق..
مدينتي التي ولدت فيها وكبرت وعشت أول عشرين سنة من عمري.. عدت إليها وقد تغيرت ملامحها كثيراً. نمت المدينة في عقود قليلة من الزمن نمواً لم تعهده مثيلاتها في قرن كامل!
جفّ نهرها الذي طالما تغنّى به الشعراء، وأصبح مستنقعاً، فاستعاض سكانها عن خريره بنقيق جوقة الضفادع التي تقطن جوفه.
لم تعد النسائم تحمل منه عبق أزاهير تنمو على ضفتيه، بل رائحة كريهة لجثة نهر تتفسخ.. وحدها الأشجار التي نمت على جانبيه ما زالت صامدة حتى تنضب آخر قطرة ماء تمتصها من أعماق تربته التي تجف رويداً رويداً كما جف سطحها.
مات النهر الذي كان منذ زمن ليس بالبعيد يزور أهل المدينة في بيوتهم، جارياً في قنوات تصل بينها..
كانت النسوة يرسلن الفاكهة لبعضهن البعض عبر القنوات، وهن يتنادين من وراء الجدران، والرجال يتوضؤون من مائها، والأطفال يتراشقون بالرذاذ.
كان بردى هبة دمشق..
ومات بردى فلم يبك عليه أحد، ولم يرث لحاله أحد، ولم يحاول إعادة الروح إليه أحد، وكأن موته أمر محتّم وطبيعي.
حرام أن تكبر المدينة وتتغيّر معالمها إلى حد التشوّه.. هذه المدينة التي ولد التاريخ من رحمها.. حرام!
قلت لي، والسيارة تنطلق بنا في تلك الأمسية:
-أنا أكره هذه المدينة.. أشعر دائماً بالانشراح عندما انطلق منها باتجاه القرية، ثم بالانقباض عندما أعود باتجاه دمشق!
نظرت إليك أعاتبك على كرهك العلني لمدينتي:
-لكن دمشق لم تكن كذلك.
-نعم، لم تكن كذلك.. إنهم التجار الذين شوّهوها!
(التجار؟! لقد ازدهرت دمشق منذ أقدم العصور على أيدي تجارها!)
لذت بالصمت.. لأني لم أشأ أن أفسد جو الأمسية الجميل بنقاش قد يطرق أبواباً أخرى!!
لقد سحرت دمشق الروائي هاني الراهب عندما جاء إليها من اللاذقية لأول مرة..
قال في لقاء معه أنها سحرته ببناتها وياسمينها ونظافة شوارعها، واعترف أن دمشق قبل أربعين عاماً هي غير دمشق التي نعرفها اليوم..
وأن سكانها كانوا من أكثر الناس دماثة.. لا يجعلونك واحداً منهم، ولكنهم يرحبون بك، ويحترمون خصوصيتك.. فكيف تكرهها بدل أن تشفق عليها؟
****
القلق هو رفيقي الدائم..
هناك في الغربة، كان القلق يعبث بي في الليالي عندما آوي إلى فراشي... أفكر في السنوات القادمات وأتساءل إن كنت سأمضي عمري الباقي كله في الغربة.
الغربة يحملها المرء معه فور رحيله لتكون زوّادته منذ اللحظة التي تطأ فيها قدمه الأرض الغريبة، وأنا حملت زوادتي معي منذ اللحظة التي وطئت فيها قدمي أرض ذلك المطار الكبير متأبطة ذراع زوجي الأجنبي..
أحببت في بلاد الغربة نظامها ونظافتها، والتزام أهلها بالعمل والمواعيد، وسهر الدولة على راحة مواطنيها.. طبيعتها جميلة.. يهتم الناس بالمحافظة عليها، فلا يشوهوا جمالها بأبنية قبيحة، ولا يرموا فيها قمامتهم.. طبيعة جميلة نظيفة منسقة، لكنها تفتقد إلى الرومانسية.
تلك الرومانسية التي أجدها في طبيعة بلادي رغم الأبنية القبيحة والقمامة واستهتار الناس!
كنت أفتقد الرومانسية في الطبيعة، والدفء في قلوب الناس..
كرهت في بلاد الغربة برودة عواطف أهلها، وتعجرفهم، وضيق أفقهم أحياناً..
مللت من أسئلتهم التقليدية: المرأة والحجاب، المرأة والرجل، الإسلام ومحرماته.. إسرائيل" المسكينة" والعرب المتربصون بها!
أسئلة تتكرر دون أن يتكبدوا عناء البحث عن أجوبتها بأنفسهم، ثم مناقشتي فيها كما أناقشهم أنا في قضاياهم.
أغرب سؤال سمعته كان عندما دعونا مرة لزيارتنا زوجين أتوا حديثاً للسكن بجوارنا.
تبادلنا الأحاديث عن الطقس والأولاد والجيران وأحوال البلدة وغير ذلك من الأحاديث التافهة التي لا مفر منها أحياناً حرصاً على اللباقة، ولعدم إحراج الطرف الآخر إن كانت اهتماماته لا تتعدى هذا المجال المحدود.
ثم.. ومن حيث لا أدري تغيّر فجأة مجرى الحديث، وأصبح "العالم الغريب" الذي جئت منه موضع اهتمام غابي وزوجها مارسيل الذي بادرني بسؤال لا يخطر ربما على بال طفل أن يسأله.. فما بالك برجل تجاوز وقتها الثلاثين من عمره!
سألني مارسيل ببداهة وبلاهة:
-هل تعرفون، وتستعملون فراشي الأسنان؟!
من حسن حظ مارسيل في تلك الأمسية أنني لجأت إلى طريقة العد إلى عشرة المحمودة، ولم أفتح فمي جيداً لأبرهن له على سلامة أسناني، ومعرفتي بفرشاة الأسنان، وبالمسواك أيضاً.. فرشاة أسنان أجدادنا أيام كان أجداد مارسيل لم يكتشفوا الفرشاة بعد، وكان القمل يسرح ويمرح في رؤوسهم!
منذ تلك الأمسية أصبح غابي ومارسيل حذرين في طرح الأسئلة.. ربما لأنهم اكتشفوا بأنفسهم أننا لا نمسح مؤخرتنا بأوراق الشجر!!
(هكذا هم معظم الناس، وليس كلهم.. فأصابع اليد ليست واحدة، ولي من مواطني تلك البلاد أصدقاء متسامحين ومحبين يحلو الحديث معهم)
الشعور بالقلق ملازم دائماً للشعور بالغربة..
كنت أقلق من شيء مجهول يحمله لي المستقبل.. شيء لا أدري كنهه، وكنت في نفس الوقت أخاف... أخاف أن أموت في الغربة، وأدفن في أرض غريبة باردة..
لم يكن الموت بحد ذاته يخيفني أبداً..
أنا لا أخاف الموت، ولا أخاف المجازفة.. لا أخاف السفر ولا أخاف الفأرة التي تخافها النساء!!
(يا لها من مسكينة تلك المخلوقة الضعيفة.. الفأرة!)
عدت إلى الوطن.. إلى أحضانه، لكنني لم أجد فيه الدفء الذي كنت أبحث عنه، وعاد القلق من جديد ليصبح رفيقي.
الشيء المجهول الذي كنت أتوجس أن يحمله لي المستقبل، لم يعد مجهولاً، فقد تجسّم لي القلق ثلاثي الأبعاد..
مرض ابنتي هو عمق القلق.. أهم أبعاده..
أما بيتر وأنت، فطول القلق وعرضه!
كان بيتر يتركني دائماً ويسافر إلى بلده.. حيث عمله.
كنت أتحمل غيابه، فعلاقتنا هي على أي حال من نوع آخر، فأنا أفتقد فيه عقل الصديق، ولا أفتقد جسد الزوج، أو أشواق الحبيب، وكانت ليلى تملأ وقتي وتشغلني بمسؤوليتي تجاهها، وتؤنسني بوجودها.
أما الآن.. فأنا وحيدة حقاً.
وأنت؟..
كيف أحببتك كل هذا الحب؟!
لا أنتظر جواباً منطقياً.. متى كان الحب منطقياً؟!
لقد تسلّقت جبالاً مكللة بالثلوج في سويسرا.
عبرت بالسيارة الغرب الأمريكي حتى المكسيك وأنا في مقتبل العمر وحدي مع جدة تجاوزت الثمانين من العمر!
طرت بالحوّامة فوق بركان ثائر في هاواي دون خوف، وسمعت زمجرة النمر في أدغال ماليزيا، وليس معي سوى سكين لن يمنع النمر من التهامي!
جرّبت قدرتي على تحمل الغثيان في قارب سريع ترفعه الأمواج العاتية ثمانية أمتار، ثم تهوي به في ثوان وسط محيط هائج عند سواحل جزر تاهيتي.
حاول سائق سيارة أجرة في تايوان ابتزازي، ووقف أمامي متحفزاً بطريقة الكونغ فو وهو يصرخ بالصينية لإخافتي، فما كان مني إلاّ أن قلدته الحركة والصراخ فلاذ بالفرار وهو لا يعلم أني لا أفقه من الكاراتيه شيئاً!
وحاول بعض رجال الشرطة تجاوز سيارتي في الأردن بسيارتهم بالقوة، ودون وجه حق، فترجلت من السيارة وتقدمت نحو السائق، وقد انحشرت سيارته في الزحام، لأجذبه من ياقة قميصه، وأنا أهدده ببطاقة سحبتها بسرعة من جيبي، وكأنها بطاقة حصانة دبلوماسية، ثم أعدتها بنفس السرعة كي لا ينتبه، وأنا أقسم أن أخرب بيته، فبدأ يعتذر ويتوسل وهو لا يعلم أن البطاقة كانت مجرد بطاقة اعتماد من البنك!
أول صفعة تلقاها رجل مني كانت منذ أكثر من عشرين عاماً، وكان هو يكبرني بعشرين عاماً..
تجاهلته سنة كاملة رغم أن ظروف العمل كانت تجمعني به معظم الأحيان، ولم أصفح عنه إلا عندما وقف أمامي يبكي كالطفل لأنه لم يعد يحتمل!
(عديدة هي المرات التي تمنيت فيها لو.. ولم أجرؤ لأنك لم تعط انفعالاتي فرصة، ولأنك ذو سطوة ومهابة، ولأني أحبك.. كنت ألمح آثار أصابعي الخمس حمراء على.. خدك.. في مخيلتي فقط!!)
أجل يا عزيزي.. هذه أنا.
لا أروي لك أحداثاً من نسج خيالي، بل أروي لك أحداثاً صحيحة مئة بالمئة، ليست سوى غيض من فيض، والله على ما أقول شهيد، وكذلك بيتر!!
كنت جريئة وشجاعة وخالية البال..
أستعرض أحياناً شريط الماضي في بالي، وكأني أستعرض أحداث فيلم من أفلام المغامرات بطلته ليست أنا.. فأضحك في سري وأنا أفكر أنه لولا الذكريات والصور والوثائق لما صدقت أنني أنا البطلة!
كانت رباطة جأشي، و"آية الكرسي" تكفيني لأنجو من المأزق مهما تكن..
لكن مأزقي معك مختلف.. وقد طال أمده سنة وسنتان..
سنتان لم تنفع فيها "آية الكرسي"، ولا الصلاة، ولا الصوم!